أصدرت المحكمة الدستورية العليا، حكما يهم ملايين الورثة، حيث تصدى لجريمة الامتناع عن تسليم الميراث، كما تصدت لأحكام البراءة التي صدرت مؤخرا في قضايا المواريث تأسيسا على عدم رفع دعوي فرز وتجنيب لعناصر التركة، أرست فيه مبدأ قضائيا حال تعدد الورثة في التركة، و قالت فيه: "جريمة الامتناع عن تسليم حصة ميراثية تتحقق ولو كانت الحصة شائعة غير مفرزة"، وذلك في الطعن المقيد برقم 31 لسنة 42 قضائية.
الوقائع.. نزاع بين أشقاء حول نصيبهم في التركة
الوقائع تتحصل - على ما يتبين من حكم الإحالة وسـائر الأوراق - فى أن كلاً من الأشقاء الثلاثة "ح" و"س" و"م" كانوا قد أقاموا بطريق الادعاء المباشر، الجنحة رقم 21602 لسنة 2019، أمام محكمة جنح مركز القناطر الخيرية، ضد شقيقهم "خ"، وحددوا طلباتهم فيها بتوقيع أقصى عقوبة على المتهم طبقًا لنص المادة (49) من القانون رقم 77 لسنة 1943 بشأن المواريث المضافة بالقانون رقم 219 لسنة 2017، وإلزامه بأن يؤدى لهم مبلغ (10001) جنيه على سبيل التعويض المدنى المؤقت عن الأضرار المادية والأدبية التى أصابتهم.
الأشقاء الثلاثة يقيمون دعوى ضد شقيقهم الرابع لرفضه تسليمهم الميراث
وذلك على سند من أنهم جميعًــا من ورثة المرحوم "م. م"، الذى خلف تركة عبارة عن قطعة أرض زراعية مساحتها (9) قراريط، كائنة بحوض بتوريا بزمام مركز القناطر الخيرية محافظة القليوبية، وأن المتهم يحوزها ويضع اليد عليها، ويقوم بزراعتها والانتفاع بها واستغلالها منفردًا، وقد امتنع دون مبرر قانونى، عن تسليم كل منهم نصيبه الشرعى من الميراث فى تلك الأرض، رغم إنذاره بذلك بتاريخ 30 أبريل 2019، مما أصابهم بأضرار مادية وأدبية من جراء الحيلولة بينهم وبين استغلالها والانتفاع بثمارها، وبجلسة 21 سبتمبر2019، قضت المحكمة ببراءة المتهم من الاتهام المنسوب إليه، ورفض الدعوى المدنية، تأسيســـًا على تشكك المحكمة في صحة إسناد التهمة إلى المتهم، وخلو الأوراق من دليل يقينى على ارتكابه الجريمة.
الشقيق الأكبر يحصل على البراءة لخلو الأوراق من فرز وتجنيب للتركة
وفى تلك الأثناء - لم يرتض المدعون بالحق المدنى والنيابة العامة هذا القضاء، فقد قاموا بالطعن عليه بالاستئناف رقم 16372 لسنة 2019 جنح مستأنف جنوب بنها، وبجلسة 30 يناير 2020، قضت المحكمة بوقف الاستئناف، وإحالة الأوراق إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل فى دستورية نص المادة (49) من القانون رقم 77 لسنة 1943 المشار إليه المضافة بالقانون رقم 219 لسنة 2017، فيما لــــم يتضمنه من لــــزوم وجــــود قسمـــة رضائية أو قضائية نهائية لغير مثليات التركة، لقيام الجريمــة محله فى صورتهــا الأولى، وهى الامتناع عمدًا عن تسليم أحد الورثة نصيبـه الشرعى من الميراث، وذلك لمخالفته نصوص المواد (2، 54، 95، 96) من الدستور.
الأشقاء الثلاثة يستأنفون على الحكم لإلغائه
المحكمة في حيثيات الحكم قالت إن المادة "49" من القانون رقم 77 لسنة 1943 بشأن المواريث المضافة بالقانون رقم 219 لسنة 2017 تنص على أنه مع عدم الإخلال بأية عقوبة أشد ينص عليها أى قانون آخر، يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه ولا تجاوز مائة ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من امتنع عمدًا عن تسليم أحد الورثة نصيبه الشرعى من الميراث، أو حجب سندًا يؤكد نصيبًا لوارث، أو امتنع عن تسليم ذلك السند حال طلبه من أى من الورثة الشرعيين.
وبحسب "المحكمة": تكون العقوبة فى حالة العود الحبس الذى لا تقل مدته عن سنة، ويجوز الصلح فى الجرائم المنصوص عليها فى هذه المادة فى أى حالة تكون عليها الدعوى ولو بعد صيرورة الحكم باتًا، ولكل من المجنى عليه أو وكيله الخاص، ولورثته أو وكيلهم الخاص، وكذلك للمتهم أو المحكوم عليه أو وكيلهما الخاص، إثبات الصلح فى هذه الجرائم أمام النيابة أو المحكمة بحسب الأحوال.
المحكمة الاستئنافية تحيل الدعوى للدستورية العليا
متى كان ما تقدم، وكان النطاق الذى يطرحه حكم الإحالة إنما ينصب على ما لم تتضمنه الفقرة الأولى من المادة (49) من القانون رقم 77 لسنة 1943 بشأن المواريث، المضافة بالقانون رقم 219 لسنة 2017، من النص على لزوم وجود قسمة رضائية أو قضائية نهائية لغير مثليات التركة لقيام جريمة الامتناع عمدًا عن تسليم أحد الورثة نصيبه الشرعى من الميراث، وكان نص تلك الفقرة قد جرَّم فعل الامتناع العمدى عن تسليم أحد الورثة نصيبه الشرعى من الميراث.
وأوضحت المذكرة الإيضاحية للقانون رقم 219 لسنة 2017 المشار إليه العلة من إصدار هذا القانون فى قولها بعث الله رسله بالرسالات السماوية التى أزالت عن الإنسان الحيف والظلم، وقررت له نصيبًا مفروضًا خالصًا، لا منة فيه لأحد ولا فضل، إلا أن ثمة تقاليد وأعرافًا بالية انتشرت فى مجتمعنا تتناقض مع الصبغة الحضارية لهذه الأمة، ومنها الامتناع عن تسليم الورثة حقهم الشرعى فى الميراث، وإذ لم يتضمن القانون رقم 77 لسنة 1943بشأن المواريث نصًا عقابيًا يضبط مسألة عدم تسليم أعيان التركة لمستحقيها، الأمر الذى استلزم التدخل بنص عقابى لتجريم الامتناع العمدى عن تسليم محل الميراث.
المحكمة الدستورية تفصل فى دستورية نص المادة (49) من القانون رقم 77 لسنة 1943
وكانت اللجنة المشتركة من لجنة الشئون الدستورية والتشريعية ومكتب لجنة الشئون الدينية والأوقاف بمجلس النواب، قد أضافت إلى نص الفقرة الأولى من المادة (49) المشــار إليهــا، عبـارة رضاءً أو قضـاءً نهائيًّـــا ، إلا أن مجلس النواب أقر النص بصياغته السالفة الذكر كما قُــدم مـــــن الحكومـــــة، وقـــــد أبانت الأعمـال التحضيرية للقانـــــون رقم 219 لسنة 2017 المشار إليه – مضبطة مجلس النـــــواب الجلسة السادسة عشرة المعقودة بتاريخ 19 نوفمبر 2017 – سند ذلك فــى أن مشــروع القانــون لا يمس أحكام المواريث لا من قريب ولا من بعيد، وأن هـــذه المادة لا تتحـدث عن المواريث، ولا عــن الأنصبـة الشرعيــة لا مـــــن قريب ولا مـــن بعيد، فالنصيب لا مساس به إطلاقًا، لأن الأنصبة فى المواريث محددة شرعًـا، وهى مسألة لا شأن لها بالنص المحال الذى يتناول الجانب الجنائى، بما لازمه أن المرجع فى تعيين النصيب الشرعى فى الميراث، كما قصده المشرع، وتوجهت إليه دلالة الألفاظ والعبارات التى تضمنها ذلك النص، هو الأحكام الشرعية والقانونية المتعلقة بالمواريث.
وهو ما أكدته المادة (875/1) من القانون المدنى فى نصها على أن 1- تعيين الورثة وتحديد أنصبائهم فى الإرث وانتقال التركة إليهم تسرى فى شأنها أحكام الشريعة الإسلامية والقوانين الصادرة فى شأنها، ومن بين هذه القوانين القانون رقم 77 لسنة 1943 بشأن المواريث، والقواعد العامة فى القانون المدنى، ومن بينها تلك الأحكام الخاصة بالميــراث وتصفية التركة، وقسمتهـا سـواء رضاءً أو قضاءً، التى تناولتها المواد (834) وما بعدهــــا من هذا القانــون، باعتبـــار أن الميراث – على ما جاء بالأعمال التحضيرية للقانون المدنى – هو أكثر أسباب الشيوع انتشــارًا، ومن أجل ذلك أحالت المــادة (904) من القانون المدنى فى شــأن قسمة التركة إلى الأحكام المقررة للقسمة فى هذا القانون.
أحكام البراءة صدرت تأسيسا على عدم رفع دعوى فرز وتجنيب للتركة
وحيث كان ما تقدم، وكان الامتناع عن تسليم النصيب الشرعى من الميراث، المؤثم بمقتضى النص المحال جاء فى عبارة عامة مطلقة تشمل جميع صور الامتناع، سواء وقع على الحصة الشائعة أو النصيب المفرز، ذلك أن كليهما يصح أن يكون محلاً للتسليم، بحكم صلاحية كل منهما لأن يحوزه حائز على وجه التخصيص والانفراد، ولا فارق بين الاثنين إلا فى أن حائز النصيب المفرز تكون يده بريئة من المخالطة، أما حائز الحصة الشائعة فيده بحكم الشيوع تخالط غيره من المشتاعين، إلا أن ذلك لا يحول دون قابليتها للتسليم والحيازة، فملكية الحصة الشائعة بصريح نص المادة (826) من القانون المدنى ملكية تامة، يجمع مالكها فى يده جميع عناصر الملكية من استعمال، واستغلال وتصرف، وينصب حقه مباشرة على حصته فى المال الشائع.
وبذلك يُعد الامتناع عن تسليمها أحد صور الامتناع المؤثم بموجب النص المحال، وذلك إلى جانب الصور الأخرى التى يكون محلها الامتناع عــن تسليم النصيب المفــرز، ســواء كان ذلك بموجـب قسمة رضائيـة أو قضائية طبقًا لأحكام القانــون المدنى أو غيرها، التى تمثل أحكام المواريث، وتصفية التركة وقسمتها جميعها، أيًّا كان موضعها، التنظيم القانونى الحاكم لتحديدها، باعتبارها أحد عناصر الركن المادى لتلك الجريمة، المنوط بالمحكمة المختصة تحريه، وتفنيد الأدلة المثبتة له، وتكوّن من خلالها عقيدتها.
الدستورية تؤكد: الجريمة تتحقق ولو كانت الحصة شائعة غير مفرزة
الأمر الذى يكون معه ما أثاره حكم الإحالة بالنسبة لهذا النص فى الحدود المشار إليها، مرده إلى الخطأ فى تأويل هذا النص، وفهمه على غير معناه الحقيقى، والتطبيق غير الصحيح لأحكامه، فوق كونه يمثل خوضًــا فى بواعث التشريع، وملاءمته، ومناقشة لدوافعه، وتدخلاً فى السياسة التشريعية التى ينتهجها المشرع لتنظيم أوضاع بعينها، والتى لا شأن للمحكمة الدستورية العليا بها، كلما كان تنفيذها – على ما جرى به قضاء هذه المحكمة – من خلال النصوص القانونية، لا يناقض أحكام الدستور.
مما لا محل معه لاستنهاض الولاية المقررة للسلطة التشريعية بمقتضى نص المادة (101) من الدستور، لتعديل النص المحال، بإضافة الحكم المشار إليه، ليضحى الدفع بعدم الاختصاص المبدى من هيئة قضايا الدولة، فى غير محله، وغير قائم على أساس سليم، متعينًا رفضه، فضلاً عن ما يستتبعه ذلك من نفى مظنة الإغفال عن هذا النص، ومن ثم فإن الخوض فيما يثيره حكم الإحالة بالنسبة له فى الحدود المتقدمة، لا يكون منتجًا فى الدعوى، الأمر الذى يتعين معه القضاء بعدم قبولها.