- مهدى ترك بيته ومزرعته وسكن الخيام.. ويخبز لأسرته على فرن طين صنعه بيديه
- جنان: كيس الطحين تخطى 400 شيكل.. وأصبح من يأكل خبزاً عادياً في غزة مَلِكاً.. ونقول اللهم صبرا وثباتا
- إسرائيل استهدفت المخابز لتجويع الفلسطينيين.. و217 مخبزا بالقطاع توقفت عن العمل إما بسبب القصف أو نفاذ الوقود
- الأمم المتحدوة تحذر من "مجاعة وشيكة"
عندما طرح العالم تشارلز داروين نظريته للتكيف في كتاب "أصل الأنواع" عام 1859 والذى شرح خلاله عملية تأقلم الكائنات الحية مع ظروف البيئة المحيطة، وهى العملية التى وصفها بفرصة "البقاء حيا"، لم يدر بخلده أن يتفوق أهل غزة على نظريته، ويضربون أعظم مثالا على التأقلم مع ظروف غاية فى القسوة تمسكا بالحياة وأملا فى النجاة، بعد أن فرضت عليهم الحرب الإسرائيلية الغاشمة أوضاعا معيشية لم يسبق أن شهدها شعبا على وجه الأرض.
أهالى غزة المنكوبة الذين فروا من شمال ووسط القطاع بعد حرب ضروس مستمرة منذ ما يقارب الـ100 يوما حصدت من أرواحهم 22 ألف شهيد وخلفت أكثر من 56 ألف جريح، استقر بهم الحال فى مخيمات على الرمال بالجنوب لا تقوى على حمايتهم من لسعات برد الشتاء، وفى ظل انقطاع الكهرباء وغياب الوقود وشح الغذاء قرر الغزاويون خوض معركة من نوع آخر، إنها معركة من أجل البقاء، فى وقت تفرض عليهم إسرائيل حصارا وكأن لسان حالها يقول من لم يمت بالقصف سيموت جوعا.
فى ظل تلك الظروف العصيبة اضطر أهل غزة إلى البحث عن وسائل تكيف مع البيئة الجديدة التى فٌرضت عليهم، فلجأوا إلى وسائل بدائية فى التنقل والطهى والخبز والتدفئة، بعد أن تركوا منازلهم الهانئة قسرا وسكنوا الخيام.
ويروى مهدى لـ"برلمانى" رحلته فى النزوح ومحاولات التأقلم مع الظروف الجديدة لتوفير أبسط متطلبات الحياه لعائلته المكونة من زوجته وخمس بنات، حيث قال: "حديقتى وبيتى اعتقتهم لوجه الله وعلى الأغلب كلهم راحوا فى الحرب".
مهدى كان يمتلك بيتا كبيرا بمزرعة تمتلئ من خيرات الله، ولديه قناة على اليوتيوب متخصصة فى الزراعة، كل هذا انتهى بمجرد بدء الحرب، وأضاف: "كنت أمتلك حديقة فيها مشتل ملكى للأسف تم قصفه وتضرر بصورة كبيرة إذا لم تكن بصورة كلية، ولكنى لم أعد أعلم عنه شيئا، تركته وأصبحت من بين النازحين من شمال القطاع لجنوبه".
وتابع: "نزحنا على عربات "الكارو" التى أصبحت وسيلة المواصلات الوحيدة فى القطاع، لم يعد هناك سيارات بعد أزمة الوقود ولكن استبدلناها بالدواب رجع بنا الزمن للوراء"، وعن صعوبات الحياة فى الخيمة الهزيلة يقول مهدى: " كنا دائما ندعو الله "اللهم اسقنا الغيث" ولكن بوجودنا فى العراء والناس يشتد عليها البرد والجوع صرنا ندعى يا رب ما تمطر".
وتفيد الأمم المتحدة، بأن الحرب الاسرائيلية على القطاع دفعت 1.9 مليون شخص أي 85% من سكان القطاع للنزوح في قطاع غزة، حيث تعرّض أكثر من نصف المساكن للدمار أو لأضرار، في هذا الجانب، يقول المسؤول بالأونروا، كاظم أبو خلف إن "حجم الدمار بقطاع غزة كبير، مع دمار حوالي 46 ألف بيت وتعرض أكثر من 234 ألف وحدة سكنية لأضرار متفاوتة"، موضحا أن هذا الوضع يدفع إلى "تنامي وتزايد الاحتياجات في مقابل شح كبير على مستوى وصول المساعدات الإنسانية، التي تدخل باستحياء".
ورغم ابتسامة مهدى التى لا تفارقه إلا أن كل ما يمرون به من عذاب يمكن أن تراه فى قسمات وجهه وهو يتحدث عما وصل بهم الحال، وقال: "حياتنا أصبحت صعبة جدا ومريرة وشحيحة من كل شيء، ورغم كل شيء نحن بخير نتأقلم ونتعايش ونصبر ونحتسب عند الله، ندبر حالنا على أى وضع، فاليوم نحن فى صراع من أجل البقاء".
مهدى حصل لأول مرة على طرد غذائى من المساعدات الإنسانية التى تدخل القطاع فى 4 يناير الجارى، وقال: "هناك شح كثير فى الغذاء وغلاء لم يحدث ولا مر علينا هذا الشيء، وفى حين كانت حديقته تعج بخيرات الله أصبح مهدى محروما من الفاكهة والخضار الطازج، حتى إنه احتفل بأول مرة لحصوله على ثلاث تفاحات له ولأولاده منذ ثلاثة أشهر بتصوير فيديو يعبر فيه عن فرحته، وقال: "لم نتمكن من شراء سوى ثلاث تفاحات الأسعار أصبحت خرافية جدا".
وحذر التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي من خطر المجاعة في قطاع غزة في أواخر ديسمبر، ووجدت اليونيسف أن عدداً متزايداً من الأطفال لا يحصلون على احتياجاتهم الغذائية الأساسية، ويستهلك حوالي 90% من الأطفال دون سن الثانية مجموعتين غذائيتين أو أقل، وفقاً لمسح أجرته اليونيسف في 26 ديسمبر، وهذا ارتفاع من نسبة 80% من الأطفال مقارنة بالمسح نفسه الذي أجري قبل أسبوعين.
وقالت اليونسيف، إن معظم الأسر أطفالها يحصلون فقط على الحبوب - بما في ذلك الخبز - أو الحليب، وهو ما يلبي تعريف "الفقر الغذائي الشديد". كما أن التنوع الغذائي للنساء الحوامل والمرضعات معرض للخطر بشدة حيث 25% استهلكن نوعاً واحداً فقط من الطعام في اليوم السابق للمسح، وحوالي 65% استهلكن نوعين فقط.
يعود مهدى لرواية حياته فى مخيم اللاجئين بجنوب القطاع، حيث قال أنهم لجأوا إلى أشياء بداية لطهو طعامهم، وأصبحوا يقوموا بخبز الخبز فى ظل توقف عمل المخابز، وقال: "استخمدمت "طبلية" من الخشب صنعنا منها أرفف لوضع الأطباق والأكواب بدلا من المطبخ، وعملنا "منصب" نغلى عليه القهوة والشاى عليه هو شبيه بـ"بابور الجاز" لكنه يعمل بالحطب والورق والكرتون لنٌشعل النار، وعملنا فرن طينة " طابون" وصرنا نخبز عليه شو ما بدنا رجعنا لأصلنا وأصل جدودنا لا أفران غاز ولا كهرباء، كذلك أسبح لدينا موقد وهو عبارة عن نار ونضع فوقها صاج نطهو عليه الطعام ونخبز الخبز، كله صناعة محلية"، ليست أزمة الأدوات فقط ولكنه أشار أيضا إلى أنهم يعانون معاناة سديدة للحصول على كيس طحين لتلبية احتياجاتهم من الخبز.
أزمة المخابز ألقت بظلالها على القطاع منذ الأيام الأولى للحرب مما دفع السكان إلى تدبر حالهم واللجوء إلى صناعة الخبز بأيديهم وعلى مواقد أو داخل أفران الطينة التى أصبحت الوسيلة الوحيدة لطهو الطعام، وقال برنامج الأغذية العالمي إن الحصول على رغيف خبز فى غزة أصبح حلم صعب المنال، حيث إن كافة المخابز في قطاع غزة توقفت عن العمل لأنه لا يوجد أي وقود لتشغيلها، وأضاف العاملون بالبرنامج أن أزمة المخابز مزدوجة، فجزء منها تم استهدافه جراء القصف الإسرائيلي، والمخابز التي نجت من القصف توقفت حيث لا توجد وفرة من الوقود لإمدادها بها.
وتقول وزارة التنمية المحلية الفلسطينية أن غزة كان يعمل بها 217 مخبز، تضررت خلال الحرب، وفى رصد زمنى نجد أنه منذ الأيام الأولى للحرب كانت المخابز هدفا اسرائيليا مقصودا لمنع الفلسطينيين من مقومات الحياه ودفعهم للجوع، وفي 18 أكتوبر، دمرت غارة جوية إسرائيلية مخبزًا في مخيم النصيرات، مما أسفر عن مقتل أربعة من عمل المخبز. وفي 19 أكتوبر، أفادت التقارير أن عدة مخابز تعرضت لقصف جوي إسرائيلي، مما جعل من الصعب على السكان العثور على الطعام.
وبحلول 24 أكتوبر، أفادت التقارير أن العديد من المخابز قد أغلقت أبوابها، في حين أن تلك التي لا تزال مفتوحة لديها طوابير طويلة لساعات طويلة. وفي 28 أكتوبر، دمرت الغارات الجوية الإسرائيلية خمس مخابز في القطاع. وفي 1نوفمبر، قصفت إسرائيل أحد المخابز الأخيرة المتبقية في مدينة غزة.
وفى 2 نوفمبر، أعلن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن أكثر من نصف المخابز في غزة قد دمرت، وفي 8 تشرين نوفمبر، أفاد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن شمال غزة لم يعد به أي مخابز عاملة.
وفي 11 نوفمبر، صرحت كورين فلايشر، المدير الإقليمي لبرنامج الأغذية العالمي في الشرق الأوسط، أن "مئات الأشخاص يصطفون لساعات كل يوم للحصول على حصص الخبز من المخابز"، ودفع الناس "إلى المجاعة".
وتروى لنا "جنان محمد" إحدى مواطنى قطاع غزة أزمة الخبز فى القطاع منذ البداية، حيث قالت: "في بداية الحرب كنَّا نشتري الخبز من المخابز ، كان هنالك وقود وطحين في غزة وكانت المخابز تعمل ، كنا ننتظر في الطوابير التي تصل إلى 300 شخص على الأقل، تبدأ الناس بحجز دَوْر لها لتشتري الخبز من الساعة الواحد ليلاً ، كان كثيرٌ منهم ينام في الشارع عند المخابز حتى يستطيع إحضار الخبز لعائلته، الكثير يعود لأهله في الساعة التاسعة صباحاً وربما الواحدة ظهراً أحياناً، وقد يعودوا فارغي الأيدي".
وأضافت جنان: "لك أن تتخيل أن تنتظر كل ذلك الوقت تحت الصواريخ والقصف والتزاحم وربما ذلك بدون نتيجة أيضاً ، هذا الحال لم يكن الأسوأ كما كنَّا نعتقد، حيث نَفِذ الطحين والوقود من المخابز لاحقاً، وهنا تشكَّلت أزمة جديدة".
جنان تحكى عن المعاناة ليحصل المواطن على رغيف خبز، وتقول :"لم يعد هنالك أي مخبز يعمل ليبيع الخبز، فأصبح الناس يبيعون خبز الصاج في الشارع وبمبلغٍ لا يسمح للجميع بشرائه، ولم تتوقف أزمة الطوابير بل زادت سوءاً، فأصبح من الصعب الوصول إلى الخبز العادي، وأصبح من يأكل خبزاً عادياً في غزة "مَلِكاً"، وفي كل يوم يمضي يزيد سعر خبز الصاج، ويصبح سعره غالياً مقارنةً بعدد الأرغفة، فأصبحنا مثلاً نأكل الفول بخبز الصاج ثم نُكمِلُه بالملاعق نظراً لأنه لم يكفي ".
ومع تطور الأزمة كما تقول جنان: "بعدها قامت مدارس الإيواء بتوزيع كيس طحين لكل عائلة في المدارس، وأصبح سعر كيس الطحين يصل إلى 200 شيكل، فقام الناس بتدبير أمورهم لفترة، وعندما نفذ الطحين أصبحنا نعود لقصة خبز الصاج الذي أصبح سعره غير معقولاً هذه المرة، وكيس الطحين الذي أصبح يصل إلى 300 و400 شيكل كحد أدنى".
وتوزع الأونروا الدقيق على الأسر في قطاع غزة، لاجئين ومواطنين، حسب عدد أفراد الأسرة بشكل تنازلي، وفي خان يونس ودير البلح جنوب ووسط قطاع غزة توافقت الأونروا والجهات الرسمية على توزيع الدقيق، من خلال تقسيم المناطق إلى مربعات ومناطق يشرف على كل مربع أو منطقة شخص يقوم بتسلم كشف بأسماء المواطنين في منطقته، ويستلم الدقيق عن هذه الفئة ثم يسلمه إلى المواطنين.
ويحق للفلسطينيين النازحين في رفح الحصول على مساعدات مجانية إذا قاموا بالتسجيل لدى وكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين، التي توزع الدقيق والبطانيات والإمدادات الطبية في 14 موقعًا في جنوب غزة، ولكن غالباً ما يقضون ساعات في الطابور في انتظار توزيع المساعدات.
وتضيف جنان: "الحمد لله بعدها تم توزيع أكياس طحين على الجميع، حينها أصبحنا مُجبَرين على الخبز بأيدينا لنستطيع تناول الخبز، بالنسبة لحالنا فيُعتبَر الأفضل ولله الحمد، جيراننا بالخيم المجاورة لديهم جميع الأدوات اللازمة، فأصبحنا نخبز الخبز على كهرباء المشفى، بينما في الجانب الآخر الكثير من الناس يخبزون الخبز على أفران الطين ومنهم من يخبزه على الحطب ومنهم من لا يستطيع خبزه أصلا".
وتعتبر أزمة الوقود أحد أهم أسباب نقص الغذاء، ففي أغسطس 2023،أى قبل الحرب بشهرين بحسب ما نقلت صحيفة "واشنطن بوست" عن منظمة غيشا، دخلت 1200 شاحنة محملة بالديزل والبنزين وغاز الطهي إلى القطاع، وكانت معظم الشاحنات تحمل الوقود للمساعدة في تشغيل محطة توليد الكهرباء المحلية في غزة، والتي كان إنتاجها يتراوح بين 65 إلى 75 ميغاوات تقريبًا من الكهرباء. وهذه المحطة هي أحد مصدرين للكهرباء في غزة، وبالإضافة إلى ذلك، اشترت السلطة الفلسطينية 120 ميغاوات من الكهرباء من إسرائيل، والتي دخلت إلى غزة.
وحتى قبل الحرب، كان يُنظر إلى هذا العرض على أنه غير كاف للغاية، حيث كان سكان غزة يقضون ما يقرب من نصف يومهم، في المتوسط، بدون كهرباء، وبسبب نقص الإمدادات، قبل الحرب، كان سكان غزة يحصلون على الكهرباء فقط في دورات مدتها 13 ساعة، ويواجهون انقطاعا لمدة 11 ساعة يوميا.
وفى مرارة ظاهرة بحديثها تٌضيف: "الحال الذي أنقله لكم والذي هو حالي، يُعتبر من أفضل الأحوال رغم صعوبته والوقت الذي نستغرقه في الخبيز، الكثير من العائلات تُكمل يومها بلا طعام والكثير منها بتناول وجبة واحدة بالكاد في اليوم والكثير يموتون جوعاً، ففكرة أن هنالك من يتناولون طعام جيد في غزة لا تعني أن الجميع هكذا، الأغلبية حالهم أسوأ لأبعد درجة، ولا نعلم إلى متى ستستمر هذه الحرب بعد، أصبحا الآن نصنع الخبز عبر موقد يتم إعداده من الطوب، أعلاه صفيحة حديدية رقيقة سرعان ما تمتد إليها النار، قبل أن يوضع عليها رغيف الخبز في صورته الأولى، وما هي إلا دقائق حتى يخرج خبزا جيدا، ولا نقول إلا اللهم صبراً وثباتاً".
معركة البقاء والصمود التى يخوضها الغزاويون منذ ثلاثة أشهر هى أعظم مثال على التكيف والتأقلم، حيث طوعوا الإمكانيات المحيطة ليستمروا فى الحياة دون كلل أو ملل، وليحبطوا كل خطط اسرائيل التى تدفعهم قسرا إلى ترك أرضهم إن لم يكن بسبب القصف والموت والدمار فبسبب الجوع الذى يأكل أحشائهم، ولكن رسالتهم "نحن باقون والقضية باقية".