"استئناف الجنايات وحلم طال انتظاره".. تم إقرار القانون رقم 1 لسنة 2024 بتعديل بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية "استئناف الجنايات" والعمل بالقانون اعتبارا من اليوم وهو اليوم التالى لتاريخ النشر في 16 يناير الماضى 2024، وبذلك أصبح أي شخص لديه قضية في جناية من الجنايات لم يصدر فيها حتى الآن حكم نهائي بات أو صدر ضده حكم غيابى، فقد أصبحت الجنايات مثل الجنح بالنسبة لإجراءات التقاضي بمعنى سيكون فيها استئناف، وإيضا التماس إعادة النظر سيكون أمام دائرة غير التى أصدرت الحكم.
استئناف الجنايات يفتح ملف "التقاضى على درجتين" وتطبيقاته في التشريع المصرى منذ عصر الفراعنة وحتى الشريعة الإسلامية، حيث إن مبدأ التقاضي على درجتين هو إتاحة الفرصة للخصم الذي حكم لغير صالحه بعرض النزاع أمام محكمة أعلى درجة لتفصل فيه من جديد فتؤيده أو تنقضه، والطريقة لذلك تسمى بالاستئناف، ولا يخفى ما لهذا المبدأ من مزايا عديدة، سواء من الناحية الوقائية أو من الناحية العلاجية، فهو أضمن لتحقيق العدالة لأنه يحث محاكم الدرجة الأدنى على العناية بأحكامها، والتأني في إصدارها خشية إلغائها أو تعديلها من محاكم الدرجة الثانية، كما يضمن إلى حد كبير علاج ما يشوب الأحكام القضائية من عيوب وتدارك ما يعتروها من أخطاء.
مبدأ التقاضى على درجتين من عصر الفراعنة لـ"العصر الإسلامي"
في التقرير التالى، يلقى "برلماني" الضوء على مزايا التقاضى على درجتين، وأهمية هذا المبدأ في إشباع غريزة العدالة في نفس المحكوم عليه بإتاحة الفرصة أمامه لعرض النزاع من جديد أمام محكمة أعلى درجة، فقضاتها أكثر عدداً وأكثر خبرة، كما يمكن الخصوم من تدارك ما فاتهم من أوجه دفاع أمام محكمة الدرجة الأولى، وبما أن نظام القضاء في الاسلام هو أقرب النظم لحماية العدل وإقرار الإنصاف والتزام المساواة المطلقة بين الناس وتعميم العدالة الاجتماعية فقد عرف هذا المبدأ في أكثر من حالة – بحسب الخبير القانوني والمحامى بالنقض محمود البدوى.
في البداية - مصر دولة لم تخلق كصدفة في التاريخ، بل إنها بلد ارتبط بصناعة أحداث التاريخ، وصياغة فصول مهمة كتبت في كتابه الخالد، وبخاصة المهمة والمؤثرة منها، ليس فقط من منطلق موقع عبقري حباها الله به، ولكن أيضاً لأن موقعها الجيوبلوتيكى المتميز جعلها ذات تأثير لا يستطيع أحد إنكار دوره المؤثر سواء في محيطها العربي أو الإفريقي، أو حتى بالنسبة لباقي بلدان العالم، فمصر التي تجلى عليها الحق سبحانه وتعالى بطور سيناء، واستقبلت على أرضها المسيح وأمه الطاهرة البتول، وهى أيضاً التي قال فيها النبي المصطفي محمد (صلى الله عليه وسلم) أن جُندها هم خير أجناد الأرض، وهي أيضاً البلد الذي ذُكر في قرآن يُتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، جميعها إرهاصات ودلالات على قدر عظمة وتميز وخصوصية هذا البلد الطيب - وفقا لـ"البدوى".
نظام أضمن لتحقيق العدالة
ويؤكد أيضاً أن مصر لم تكن صدفه في كتاب التاريخ بل خلقت لتصنع التاريخ، حينما عرفت الكتابة والفنون والعلوم والثقافة وحسابات الفلك والنجوم، وأسرار كثيرة ما زال العلم الحديث بما وصل إليه من تطور عاجز عن سبر أغوار تلك العلوم والأسرار التي صنعها المصري القديم منذ آلاف السنين، ولعل جميع ما سبق هي علامات تدلل على مدى عظمة هذا البلد، ولكن كان من أهم العناصر والمسببات التي ساهمت في صلابة هي قوة مؤسساتها العريقة، وأبرزها مرفق العدالة فهى الهيئة المسئولة عن حفظ إقرار وسيادة العدل بين العباد، والتأكيد على مبادئ الحق والمساواة والعدالة بين أبناء الإقليم المصري، ومدى إسهاماتها في كافة الاستحقاقات التي أكدت وبحق أن قضاء مصر هو حصن حصين للمشروعية القانونية والإجرائية ولحفظ الحقوق والحريات – الكلام لـ"البدوى".
والحقيقة أن الدولة المصرية هي دولة تحترم القانون وتجل رجالة، وتقدس نصوص قوانينه منذ آلاف السنين، وهو واحد من أهم العناصر التي صنعت عظمة هذا البلد وحفظته حتى الآن من السقوط في مخططات الغزاة الذين تعاقبت أطماعهم في خيراتها على مر العصور، فذهب الغزاة وأطماعهم وبقيت مصر خالدة، فلا خوف على بلد متحضر يحترم الدستور والقوانين المكملة له، ولما لا وهى الدولة المتحضرة وبحق، والتي سبقت العالم كله منذ أكثر من 2300 عام قبل الميلاد حينما هي وضعت نظاماً للتقاضي على درجتين، بينما كان العالم يرسخ تحت ظلم القوة الغاشمة ولا يعترف إلا بقوة السلاح، ومن هنا كان تميز الدولة المصرية العظيمة – طبقا للخبير القانوني.
ويحث محاكم الدرجة الأدنى على العناية بأحكامها
فقد كان نظام التقاضي على درجتين أمراً معروفاً عند الفراعنة، حيث كانت أحكام محاكم الأقاليم أي (محاكم الدرجة الأولى) تستأنف أمام محكمة الاستئناف في العاصمة، كما عرفت مصر الفرعونية أيضاً محكمة القضاء الإداري، وقضاء التحكيم وأخيراً المحكمة الإقطاعية وكانت تتكون من قضاة يختارون من أعيان الأقاليم، وتختص بالفصل بين المسائل المدنية والتجارية، وكان يتبع كل محكمة نوعان من الإدارات، مثل إدارة المحفوظات ومهمتها حفظ وقيد القوانين والأحكام والوثائق التي تعرض على المحكمة، كما عرفت نظام (المكتب الأمامي) المعمول به بالمحاكم الآن، وكان يمثل في إدارة ثانية بالمحاكم وظيفتها تلقي عرائض الدعاوي من المتقاضين، وكان رئيس المحكمة بنفسه يتولى الإشراف على هاتين الإدارتين – هكذا يقول "البدوى".
كما أنها أيضاً عرفت نظام الاختصاص المكاني والجغرافي للمحاكم، فكان الوجه القبلي يوجد به ستة (6) محاكم أو بيوت كبيرة تصدر فيها الأحكام، وكان كل واحد من كبار عشرة الوجه القبلي يعتبر أيضاً مستشاراً في وزن الأقوال السرية الخاصة بالبيت الكبير، أي عضواً في أحد المحاكم الست، وكان رئيس هؤلاء العظماء وحده هو الذي له حق الجلوس فيها جميعاً بوصفه مستشاراً في وزن الأقوال السرية الخاصة بالبيوت الستة الكبيرة، أما محكمة الدرجة الثانية فقد كان مقرها عاصمة البلاد، وكانت تتكون من عدد من كاتمي الأسرار الذين يحكمون باسم الملك، وقد أعيد تشكيل هذه المحكمة في عهد الأسرة الخامسة والتي حكمت مصر من عام 2494 إلى عام 2345 قبل الميلاد، حيث كان يطلق عليها محكمة الستة لأنها كانت مكونة من ستة دوائر، وذلك وفقاً لما ذهب إليه معظم الشراح والمؤرخين – بحسب "البدوى".
نظام القضاء في الإسلام هو أقرب النظم لحماية العدل
وكلماتي هنا وفي هذا المقام ليس تحيزاً ولا مداهنة لقضاة مصر الأجلاء فهم أغنى عن الشكر، فهم رجال يؤدون مهمتهم بتجرد حباً في هذا الوطن وإيماناً برسالة القضاء، بل إن كلماتي اليوم هي في مقام التذكير بجهود مؤسسات ورجال كانوا سبباً في حفظ استقرار هذا البلد العظيم في واحدة من أخطر مخططات الإسقاط التي تعرضت لها منطقتنا العربية ككل، ولعل تلك الكلمات أيضاً تكون مرجعاً بسيطاً وتذكرة للبعض منا بأننا أبناء بلد هو الأعرق في التاريخ في مجال احترام الحقوق والمحافظة عليها وتسهيل طرق الوصول إليها عملاً وليس قولاً، بلد مهما مرضت لا تموت، ومهما تقدم بها العمر لا تشيخ، ومهما مر عليها من خطوب الدهر وأزماته لا تسقط، إنها مصر منحة الله إلى البشرية، ومنارة العلوم والفنون والثقافة والقانون والحقوق والحريات.
4 أمثلة تثبت اعتماد الشريعة الإسلامية على التقاضى على درجتين في الأحكام
نظام القضاء في الاسلام هو أقرب النظم لحماية العدل واقرار الانصاف والتزام المساواة المطلقة بين الناس وتعميم العدالة الاجتماعية فقد عرف هذا المبدأ في أكثر من حالة، وقد تم بيان هذه الحالات في عدد من الآيات والأحاديث الشريفة وأقوال الصحابة، ومن ذلك:
1- نص الآية 78 من سورة الأنبياء حيث يقول الله تعالى: "وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين".
فنتبين من الآية أن غنماً أتلفت حرثاً فقضى داود عليه السلام بالغنم لصاحب الكرم فقال سليمان : غير هذا يا نبي الله، قال : وما ذاك، قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا كان الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه ودفعت الغنم إلى صاحبها.(السنن الكبرى للبيهقي جـ 10 ص 118 - جامع البيان جـ 17 ص 51).
2- ما روي عن علي بن أبى طالب رضي الله عنه لما ولي أمر اليمن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد حدث أن حفر الناس حفرة لأسد ليقع فيها، فلما وقع الأسد بالحفرة تزاحم الناس حولها لينظروه، فوقع واحد منهم في الحفرة، فأمسك بثاني فوقع الثاني والثاني بثالث والثالث برابع حتى وقع الأربعة بالحفرة وقتلهم الأسد، فاحتكم أهل القتلى إلى علي رضي الله عنه، فقضى للأول بربع الدية والثاني بالثلث والثالث بالنصف وللرابع بدية كاملة، وأوجب هذه الديات على عواقل المزدحمين حول الحفرة، فلم يرتح أهل القتلى لهذا الحكم، وأتوا الرسول صلى الله عيه وسلم في موسم الحج، وعرضوا عليه الأمر، فأمر صلى الله عليه وسلم بقضاء علي وقال: هو ما قضى بينكم، (الشيخ احمد هريدي ص146 وسلام مذكور ص 333).
3- حديث أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بإبن أحدهما فقالت لصاحبتها إنما ذهب بإبنك وقالت الأخرى إنما ذهب بإبنك فتحاكمتا إلى داود عليه السلام فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه فقال ائتوني بالسكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى.(صحيح البخاري جـ8 ص194 - صحيح مسلم جـ3 ص1344).
4- حينما تولى عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قضاء الكوفة من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أتى برجل من قريش وجده مع امرأة في ملحفتها ولم تقم البينة على غير ذلك، فضربه عبدالله أربعين وعرضه للناس-أي أذاع أمره بينهم- فغضب قوم الرجل من هذا الحكم، وذهبوا لعمر رضي الله عنه وعرضوا الأمر قائلين لقد فضح عبدالله رجلاً منا، فسأل عمر عبدالله بن مسعود في ذلك، فقال أتيت به وقد وجد مع امرأة في ملحفتها ولم تقم البينة على غير ذلك فضربته أربعين وعرضته للناس، قال عمر أرأيت ذلك قال عبدالله نعم فقال عمر الرأي ما رأيت. (الشيخ أحمد هريدي ص146)
6 مبادئ لتقرير مبدأ التقاضى على درجتين في الشريعة الإسلامية
إن هذه الأدلة تثبت أن هذا المبدأ قد عرفه النظام القضائي الإسلامي قبل أن تعرفه الأنظمة الوضعية بمئات السنين، ولكن ما يزال هناك من يعارض هذا المبدأ وينسبه إلى الأنظمة الوضعية، وقد تصدى أحد الشراح لهؤلاء بست حجج لإمكان تقرير هذا المبدأ دون أن يكون في تقريره أدنى مخالفة لقواعد الشريعة، وذلك على النحو التالي:-
أولاً: أنه لا يوجد نص في الكتاب أو السنة يمنع مراجعة حكم القاضي لإصلاح خطئه المتعلق بالوقائع.
ثانياً: أن عدم إجازة مراجعة الحكم، مبناه الحرص على استقرار الأوضاع، إذ انه متى ماكتسب الحكم القطعية أصبح نافذاً، فخشي البعض أن يتجدد النزاع إلى مالا نهاية، إذا ما أجيز الطعن على الحكم، ولكن هذه العلة غير واردة إذ أنه متى صدر حكم محكمة أول درجة، بدأ ميعاد معين لاستئنافه من وقت صدور الحكم أو من وقت إعلانه للمحكوم عليه وذلك حسب الأحوال، فإذا لم يستأنف الحكم في خلال هذه المدة القصيرة أصبح الحكم نهائياً لا يجوز استئنافه، ومن ثم فإن نظام الاستئناف لا يخل باستقرار الأحكام.
ثالثاً: أن نظر محكمة الدرجة الثانية-وهي المحكمة الاستئنافية- للدعوى إنما هو امتداد لنظرها أمام محكمة أول درجة، بحيث يكون نظر النزاع في هذه الحالة على مرحلتين، ولا يكتسب الحكم الابتدائي القطعية إلا بصدور الحكم الاستئنافي المؤيد له، أو بفوات ميعاد الاستئناف.
رابعاً: أن القضايا في الماضي كانت بسيطة غالباً ولا تعقيد فيها، بحيث يكون استخلاص الوقائع المطابق للحقيقة أمرا هينا، أما في الوقت الحاضر فقد انعكست المسألة، وأصبح الخطأ في فهم الوقائع أكثر وروداً.
خامساً: أن رفض الدعوى لخطأ في فهم الوقائع مساو لرفضها لخطأ في فهم النص الذي أجاز الفقهاء الطعن على الحكم بسببه.
سادساً: أن نظام الاستئناف يقوم على مصلحة محققة لم يقم دليل شرعي على عدم وجوب العمل بها.
قانون استئناف الجنايات 2