العصر الذي نعيشه في الوقت الحالي يتميز بالتطور التكنولوجي السريع، والذي لا يتوقف عند حد معين ويشمل جميع مناحي الحياة سواء الحياة اليومية التي نعيشها والمهام اليومية التي تتخلها من بيع وشراء إلى التنقل التعليم والتعلم، الاقتصاد، وحتى الحروب والأسلحة الذكية فيما يعبر عنها بأنها، وبالتالي شهدت مختلف المجالات تحولات جذرية تعتمد على التقنيات الذكية التي تقدم تطبيقات متعددة، وبطبيعة الحال لا يعتبر القضاء بمنأى عن هذا التأثير وكذلك وبصورة أكثر تحديدا التنظيم الإجرائي لقواعد القضاء المدنى فيما يتصل بفلسفتها من جهة، والقواعد التنظيمية التي تتضمنها من ناحية أخرى.
وفي واقع الأمر فإن تقديم التقنيات الذكية أو تقنيات الذكاء الاصطناعي في القانون بمجلاته المختلفة عموما وفي مجال القانون الإجرائي والتنظيم القضائي خصوصا أمر غير جديد، ذلك أن أول وجود للتكنولوجيا كان في المحاكم من خلال الاستعانة مبدئيا ببعض الأجهزة التكنولوجية لمواجهة بعض العقبات الإجرائية مثل خاصية الدوائر التلفزيونية المغلقة - الفيديو كونفرنس - للتواصل مع شاهد يتعذر عليه الحضور شخصيا إلى المحكمة، ثم بعد ذلك إلى إلكترونية إجراءات التقاضي.
الواقع الافتراضي في المحاكم الجنائية نحو عدالة أكثر ذكاء
في التقرير التالى، يلقى "برلماني" الضوء على الواقع الافتراضي في المحاكم الجنائية نحو عدالة أكثر ذكاء، من خلال إجراءات التقاضى فيما يتصل بالاجراءات كرفع الدعوى والإعلان وتبادل المذكرات، مرورا بما يسمى الذكاء الاصطناعي في منظومة العدالة بين مبادئ القضاء المدني وأفاق التطور التكنولوجي، ومحاكم الجيل الأول أى المحاكم الالكترونية، وانتهاء بمحاكم الجيل الثاني وهي تلك المحاكم التي تنعقد إلكترونيا أيضا لكن بطريقة غير متزامنة، حيث تُصاغ مصائر البشر بين دفتي القانون، يبرز سؤال ملحّ هنا، هو كيف يمكن للتكنولوجيا أن تخدم العدالة، في عصر تسارعت فيه الابتكارات - بحسب أستاذ القانون الجنائى والخبير القانوني الدولى محمد أسعد العزاوي.
في البداية - على قدر ما تم تقديم تلك التقنيات أو الوسائط التكنولوجية في وقت ليس ببعيد - على أنها بمثابة حلول واعدة لمشاكل تتصل في مجملها بالحق في اللجوء إلى القضاء، وحسن إدارة العدالة من خلال ما قد يؤدى إليه إعمال تلك التقنيات من تقليل نفقات التقاضي وتقريب المتقاضين إلى جهات التقاضي من خلال الجلسات التي تنعقد إلكترونيا، ويساعد في القضاء على تكدس القضايا وتأخر الفصل فيها بالتبعية وصولا إلى الفصل في القضايا في وقت معقول، إلا أنها وبذات القدر فرضت تحديات للقواعد الإجرائية القائمة مثل مبدأ المواجهة وحضورية المرافعات، وإجمالا حقوق الدفاع، وتقاليد السلطة القضائية – وفقا لـ"العزاوى".
كيف يمكن للتكنولوجيا أن تخدم العدالة؟
وفى ظل التحديات القانونية والواقعية التي فرضها - إن جاز التعبير - الأمر الواقع لعل أبرزها في مجال إعمال التكنولوجيا في القضاء هو انتشار فيروس الكوفيد 19 فقد أدى التحول الرقمي في هذا الصدد إلى تغيرات فعلية على مستوى الواقع العملي والتشريع كذلك في مختلف دول العالم، فكما ذكرنا من قبل في قاعة المحكمة، حيث تُصاغ مصائر البشر بين دفتي القانون، يبرز سؤال ملحّ هنا، هو كيف يمكن للتكنولوجيا أن تخدم العدالة، في عصر تسارعت فيه الابتكارات، وفي الحقيقة لم تعد المحاكم بمنأى عن ثورة التقنية، بل وجدت نفسها في مواجهة أدوات جديدة قد تغيّر شكل المحاكمات كما نعرفها – الكلام لـ"العزاوى".
أحد هذه الأدوات هو الواقع الافتراضي "VR"، الذي لم يعد مجرد وسيلة للترفيه أو التدريب، بل أصبح بوابة لدخول مسرح الجريمة بطريقة لم تكن ممكنة من قبل، وفي ضوء ذلك فقد سمح قاض في ولاية فلوريدا الأميركية بتقديم محاكاة بالواقع الافتراضي كدليل في قضية تتعلق باعتداء خطير تعود لعام 2023م، وقد تكون هذه هي المرة الأولى التي يُسمح فيها للدفاع في أي جلسة استماع في محكمة جنائية في الولايات المتحدة باستخدام تقنية الواقع الافتراضي في تقديم دليل – هكذا يقول أستاذ القانون الجنائى.
علاقة التكنولوجيا بنقل الحقيقة كاملة
ولطالما اعتمدت المحاكم الجنائية على الأدلة المادية، والشهادات، والصور الفوتوغرافية لرسم صورة لما حدث في مسرح الجريمة، لكن مهما بلغت هذه الأدلة من دقة، فإنها تظل قاصرة عن نقل الحقيقة الكاملة، هنا يأتي دور الواقع الافتراضي، الذي يمكن من خلاله إعادة بناء مشهد الجريمة ثلاثي الأبعاد، ليتمكن القضاة والمحلفون من رؤية ما لم يكن ممكنًا رؤيته من قبل – طبقا للخبير القانونى.
تخيل محاكمة لقضية قتل، حيث يمكن للحضور أن يدخلوا إلى مسرح الجريمة الافتراضي، يتجولون بين الأدلة، يرون الزوايا التي كان يمكن، أو لا يمكن للضحية رؤيتها، بل وحتى يستشعرون أجواء المكان كما كانت لحظة وقوع الجريمة، في لحظة تتحول القضايا المعقدة إلى سيناريوهات واضحة، وتصبح التفاصيل الدقيقة أكثر وضوحًا من أي وقت مضى، والتساؤل الذي يثار هنا، هل نثق بالواقع الافتراضي في العدالة، هنا يكمن التحدي، هل يمكن للقضاء أن يثق تمامًا في مشاهد افتراضية تم إنشاؤها رقميًا، وهل يمكن ضمان عدم تحريف هذه المشاهد أو توجيهها بطريقة تخدم طرفًا على حساب آخر – كما يذكر "العزاوى".
حماية حقوق الضحايا والشهود عند إعادة تمثيل الجرائم
فالعدالة لا تقوم فقط على كشف الحقيقة، بل على التأكد من أن الحقيقة التي نراها ليست محرفة، فإذا كان بإمكان مهندسي التقنية أن يبنوا مشهدًا افتراضيًا لجريمة، فمن يضمن أن التفاصيل لم تتغير ولو قليلًا، ومن يضع المعايير التي تضمن أن كل ما يُعرض في المحكمة عبر الواقع الافتراضي هو انعكاس دقيق لما حدث في الحقيقة، فبين الأمل والمخاوف، فلا شك ولاريب أن إدخال الواقع الافتراضي إلى المحاكم يمثل فرصة عظيمة لتطوير العدالة، لكنه في الوقت ذاته يفتح بابًا أمام تحديات أخلاقية وقانونية لا يمكن تجاهلها.
والتساؤل الذي يثار هنا أيضاً، هو كيف يمكن حماية حقوق الضحايا والشهود عند إعادة تمثيل الجرائم، وكيف يمكن التأكد من أن المحلفين لا يتأثرون بمشاهد قد تكون مؤثرة عاطفيًا لكنها ليست دقيقة تمامًا، ربما يكون الحل في وضع إطار قانوني صارم يحدد كيف يمكن استخدام هذه التقنية، ومتى تصبح الأدلة الافتراضية مقبولة في المحكمة، فكما أن القانون لا يقبل بشهادة غير موثوقة، لا يجب أن يقبل بمشهد افتراضي ما لم يكن دقيقًا ومحايدًا.
خلاصة القول:
وفى الأخير يقول "العزاوى": قد يبدو المستقبل مخيفًا عندما تمتزج التكنولوجيا بالقضاء، لكن الحقيقة أن العدالة لم تكن يومًا ثابتة، بل تطورت عبر العصور، ومع كل ابتكار جديد، تتغير طرق كشف الحقيقة، فربما سيأتي يوم تصبح فيه قاعات المحاكم أشبه بغرف محاكاة تفاعلية، حيث يعيد القضاة تجربة الأحداث بدقة تامة، لكن حتى ذلك اليوم، سيبقى التحدي الأكبر هو كيفية الموازنة بين التكنولوجيا والعدالة، بحيث نخدم الحقيقة، لا أن نسمح للحقيقة بأن تُصنع رقميًا.