طهران استعرضت عضلاتها كثيرا فى ميادين عدة كالعراق وسوريا ولبنان، حاولت بإمساك خيوط الأزمات فى تلك البلدان وانتهاج سلوك أصبح مصدر إزعاج للولايات المتحدة وحلفاءها، وعززت من سياساتها مع إطلاق ترامب استراتيجيته الأخيرة فى أكتوبر الماضى، لتقويض طهران، لاستحواذ على أكبر عددا من أوراق الضغط على الإدارة الأمريكية التى هددت بنسف الاتفاقية النووية التى أبرمتها مع القوى الكبرى ووقعتها إدارة الرئيس السابق أوباما فى مايو 2015، فضلا عن إطلاق الحرس الثورى تهديدات باستهداف الجيش الأمريكى وإنزاله منزلة "داعش".
تهديدات قائد الحرس الثورى الإيرانى محمد على جعفرى، فى 8 أكتوبر الماضى باستهداف القوات الأمريكية المتواجدة على مسافة أقل من 2000 كيلومتر من حدود بلاده، وبتصنيف الجيش الأمريكى بالمنطقة كـ "تنظيم إرهابى" مثل "داعش"، إذا فرضت الولايات المتحدة عقوبات جديدة ضد إيران والحرس الثورى، فيما يبدو أنها أتت أكلها، ودفعت الإدارة الأمريكية بالتفكير فى الدخول فى تفاهمات مع الدولة العميقة فى طهران والفاعل فى السياسة الإيرانية، أى قادة الحرس الثورى، لاسيما قاسم سليمانى العقل المدبر والمحرك للعناصر الموالية لإيران فى كلا من سوريا والعراق ولبنان وغيرها من مناطق النفوذ الإيرانى.
رسالة الاستخبارات الأمريكية للحرس الثورى
وكشف مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية مايك بومبيو، عن التفاهمات الأمريكية مع قائد فيلق القدس التابع للحرس القورى، وقال إنه قام بإرسال رسالة للجنرال قاسم سليمانى والقادة الإيرانيين للتعبير عن قلقه بشأن سلوك إيران، الذى ينطوى على تهديد بشكل متزايد فى العراق.
وقال بومبيو خلال ندوة فى منتدى ريجان السنوى للدفاع فى جنوب كاليفورنيا، إنه بعث الرسالة بعد أن أشار قائد عسكرى إيرانى كبير إلى أن القوات التى تحت إمرته قد تهاجم القوات الأمريكية فى العراق، فى إشارة إلى تهديد قائد الحرس الثورى جعفرى لاستهداف الجيش الأمريكى.
وأوضح بومبيو "ما كنا نتحدث عنه فى هذه الرسالة هو أننا سنحمله ونحمل إيران مسئولية أى هجمات على المصالح الأمريكية فى العراق من قبل القوات الخاضعة لسيطرتهم". وأضاف "نريد أن نتأكد أنه والقيادة فى إيران يتفهمان ذلك بطريقة واضحة وضوح الشمس.
وذكر بومبيو الذى تولى قيادة المخابرات المركزية فى يناير أن سليمانى، الذى يتولى قيادة العمليات الخارجية للحرس الثورى الإيراني، رفض فتح الرسالة، الأمر الذى أكده محمد كلبايكانى رئيس مكتب المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، حيث قال إن اللواء سليمانى، رفض استلام رسالة من مدير "CIA "أثناء معارك البوكمال بسوريا، وقال سليمانى للوسيط: "لن استلم رسالتك ولن أقرأها وليس لى أى حديث مع هؤلاء الأفراد".
النبرة الإيرانية تنخفض تجاه الجيش الأمريكى
وفيما يبدو أن الرسالة حققت هدفها، حيث انخفضت النبرة الإيرانية من استهداف القوات الأمريكية إلى إخراجها من سوريا، على نحو ما ذكر مساعد المرشد للشؤون الدولية على أكبر ولايتى، وأضاف ولايتى خلال مهرجان "طلوع الحقيقة" صباح اليوم الأحد فى طهران، قائلا "إن الولايات المتحدة الأمريكية أقامت 12 قاعدة عسكرية فى سوريا وتنوى زيادة القوات هناك إلى 10 آلاف شخص"، "عليهم أن يعلموا أنهم سوف يهزمون، هم يريدون أن يحتفظوا بالرقة لأنفسهم؛ لكنهم سيعلمون فى القريب العاجل أنه سيتم إخراجهم منها، كما كانوا يتصورون أن بإمكانهم البقاء فى البوكمال حيث تم إخراجهم من هناك أيضا".
دلائل رسالة المخابرات الأمريكية للحرس الثورى والتفاهمات الإيرانية الأمريكية
إفصاح مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية عن فحوى الرسالة فى وسائل الإعلام بعد أن رفضها سليمانى، كان وسيلة من جانب الإدارة الأمريكية لإيصال مضمونها إلى مسامع دوائر صنع القرار السياسية فى إيران، التى تفهمت بالتأكيد الرسالة وحدود تحركات العناصر الموالية لها فى العراق وسوريا، لضمان عدم حدوث احتكاك بين الطرفين فى ميادين النفوذ الإيرانية الأمريكية.
فضلا عن أن الرسالة كشفت محاولات الولايات المتحدة بتحديد مساحات التحرك الإيرانية فى العراق وسوريا، والمسافة بين عناصرها على غرار الحشد الشعبى فى العراق والمقاتلين الأفغان الشيعة فى سوريا، ما يعنى أنها أصبحت ترى النفوذ الإيرانى فى هذه المناطق أصبح أمرا واقعا وعليها أن تتعاطى مع تواجد العناصر الموالية لإيران فى العراق وسوريا، طالما أن تلك الميليشا ظلت بعيدة عن القوات الأمريكية واحتفظت بمسافة تطمأن واشنطن على جيشها فقط.
إرسال الولايات المتحدة رسالة لقاسم سليمانى أثناء تواجدة فى البوكمال السورية، يشير إلى أن واشنطن ترصد خطوات قائد فيلق القدس فى سوريا جيدا، فلم تبعث بها عبر قنوات أثناء وجوده فى طهران، بل تعمدت تسلمها له وهو فى مسرح العمليات القتالية، لتظهر مدى متابعتها لتحركات الجنرال الإيرانى وأنه تحت أعين واشنطن.
رسالة الاستخبارات الأمريكية لإيران من أجل التفاهم والتنسيق فى مناطق نفوذ طهران لم تكن الأولى، فالإدارة الأمريكية التى اعتادت تقسيم مناطق النفوذ والتنسيق والتفاهمات ليس فقط بين الحلفاء بل الخصوم أيضا، على غرار أن صفقة الأسلحة الأمريكية التى قامت طهران بشرائها عام 1985م مقابل إطلاق سراح بعض الأمريكيين المحتجزين فى لبنان، إضافة إلى ملامح التنسيق بين الولايات المتحدة وطهران وقت احتلال العراق فى 2003، فضلا عن نتائج سلوك واشنطن فى بغداد التى كان أبرزها إضعاف الجيش العراقى، الأمر الذى صب فى صالح طهران التى وجدت منها ذريعة للنفوذ إلى مفاصل الدولة العراقية، بغية محاربة داعش.
كما كانت رسائل الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما (2009 - 2017) المتكررة خلال فترة حكمه للمرشد الأعلى على خامنئى، إحدى طرف التفاهمات بين الإدارتين، حيث دلت على أن الإدارات الأمريكية كانت تفضل الإبقاء على شعرة معاوية مع طهران رغم العداء القائم بين النظامين. وأخيرا نظر فى العالم العربى إلى الاتفاق النووى على أنه حلقة أخرى من حلقات التنسيق الأمريكى وتوزيع الأدوار.