فى الوقت الذى تعانى فيه طهران من الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، وزيادة الضغوط فى الداخل جراء المظاهرات التى يطلقها قطاع كبير من المواطنين الإيرانيين اعتراضا على القمع والفساد الذى تعانى منه الحكومة الإيرانية، بالإضافة إلى الضغوط الدولية التى ترتبت على القرارات الأمريكية المتواترة بالانسحاب من الاتفاق النووى فى مايو الماضى، وكذلك العقوبات التى فرضتها إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب على الحكومة الإيرانية، اتجهت قوات الحرس الثورى إلى شن هجوم مفاجئ على محافظة أربيل العراقية، لاستهداف مقر الحزب الديمقراطى الكردستانى فى العراق.
ويحمل الاستهداف الإيرانى للأكراد بالعراق فى طياته امتدادا للسياسة التى تبنتها تركيا فى السنوات الماضية، والتى قامت فى البداية على استخدام فزاعة الأكراد لإلهاء الرأى العام الداخلى الناقم على الأوضاع الداخلية المتدهورة، وهو ما بدا فى نتائج الانتخابات البرلمانية فى أنقرة يونيو 2016، والتى حقق فيها حزب الشعب الكردى نتائج كبيرة تمكن من خلالها مزاحمة حزب العدالة والتنمية الحاكم فى السلطة، وبالتالى تقييد سلطات الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، والذى لجأ فى النهاية إلى ضرب معاقل الأكراد فى تركيا، تزامنا مع قراره بعقد انتخابات مبكرة عقدت فى نوفمبر فى نفس العام، ليعود من جديد إلى سلطته المطلقة التى فتحت الباب أمامه لتوسيع صلاحياته وتغيير الدستور فى تركيا.
معضلة الأكراد.. من القمع الداخلى إلى ما وراء الحدود
وتعد معضلة الأكراد هى أحد أهم القواسم المشتركة بين تركيا وإيران فى المرحلة الراهنة، حيث تنظر حكومتا البلدين بعين الريبة والشك تجاه الأحزاب والحركات الكردية فى الداخل، وبالتالى تصنيفهم كمنظمات إرهابية، إلا أن الملفت للانتباه فى المرحلة الحالية هو امتداد سياسة "استهداف الأكراد" إلى ما وراء الحدود، حيث اتجهت الدولتان مؤخرا إلى اتباع سياسة انتهاك حدود دول الجوار بحجة القضاء على الميليشيات الكردية، باعتبارها تهديدا للأمن القومى.
ولعل تركيا كانت صاحبة السبق فى استهداف الأكراد فى الخارج، حيث اتجهت إلى احتلال عفرين السورية، لدحض الميليشيات الكردية، بينما توغلت فى الأراضى العراقية مؤخرا لنفس السبب، وهو الأمر الذى كان يمثل مقدمة مهمة للتوتر الكبير فى العلاقات الأمريكية التركية، والذى وصل إلى ذروته على خلفية رفض نظام أردوغان الرضوخ لمطالب الرئيس الأمريكى دونالد ترامب حول الإفراج عن القس الأمريكى المحتجز أندرو روبنسون، وهو الأمر الذى دفع الولايات المتحدة إلى فرض عقوبات على تركيا، ساهمت بصورة كبيرة فى زيادة التدهور الاقتصادى الذى تعانيه أنقرة منذ شهور.
الموقف الإيرانى.. طهران تستلهم التجربة الأردوغانية
إلا أن الموقف الإيرانى من الهجمات التركية على الأكراد خارج الحدود وخاصة سوريا ربما كان محلا للجدل، خاصة مع حالة الصمت الذى ساد دوائر صناعة القرار الإيرانية، ففى الوقت الذى تشعر فيه طهران بالقلق تجاه أكراد سوريا، واستيعابها للقلق الأمنى التركى تجاه الميليشيات الكردية، إلا أنها فى الوقت نفسه كانت تتشكك فى نوايا تركيا الاستراتيجية وراء الهجوم، خاصة فى ظل التحالف التركى مع بعض الميليشيات المتطرفة، وعلى رأسها تنظيم داعش الإرهابى، وجبهة النصرة، وهى التنظيمات التى تمثل تهديدا مباشرا لطهران.
ولكن يبدو أن الضغوط التى تتعرض لها طهران سواء فى الداخل أو الخارج، دفعت قيادات الحرس الثورى الإيرانى إلى استلهام تجربة أردوغان، من خلال خلق "فزاعة" جديدة يمكن استخدامها لحشد الرأى العام الداخلى، وبالتالى احتواء الغضب الناجم عن تردى الأوضاع الاقتصادية من جانب، بالإضافة إلى السعى نحو استخدام القوة العسكرية المباشرة لفرض الإرادة والنفوذ الإيرانى فى محيطها الجغرافى، بالإضافة إلى الوقوف فى موقف التحدى من جديد للإدارة الأمريكية فى ظل التوتر المتصاعد بين البلدين بصورة كبيرة.
رسائل إيرانية.. هل كشر الحرس الثورى عن أنيابه فى مواجهة ترامب؟
ويعد امتداد الدور الإيرانى إلى ما وراء الحدود ليس بالأمر الجديد، تماما حيث لعبت قوات الحرس الثورى الإيرانى دورا كبيرا فى الفوضى التى شهدتها كلا من سوريا والعراق فى السنوات الماضية، إلا أن الإعلان الرسمى عن مسئوليتها عن الهجوم الأخير الذى استهدف المحافظة العراقية، يمثل سابقة إيرانية على الأقل منذ سنوات، حيث أنها اعتادت على القيام بدورها المشبوه لزعزعة استقرار العديد من الدول العربية إما بشكل مباشر، دون إعلان، أو بشكل غير مباشر من خلال دعم الميليشيات التابعة لها فى تلك الدول، وهو ما يمثل تغييرا مهما فى بوصلة السياسة الإيرانية فى المرحلة الراهنة.
الهجوم الإيرانى على الأراضى العراقية ربما يمثل امتدادا للنهج المتعنت الذى تتبناه الدولة الفارسية تجاه الولايات المتحدة، والتى ترى أن الأكراد يمثلون قوة مهمة فى الحرب على تنظيم داعش الإرهابى، فى ظل التوتر الكبير فى العلاقات بين البلدين، كما أنه يمثل رسالة قوية مفادها أن طهران يمكنها أن استخدام القوة العسكرية لتهديد المصالح الأمريكية فى العراق ودول أخرى فى المنطقة فى المرحلة المقبلة، على غرار ما حدث إبان الاحتلال الأمريكى للعراق عندما استهدفت الميليشيات الموالية لطهران الجنود الأمريكيين هناك، وهو ما ساهم فى تكبيد الولايات المتحدة خسائر كبيرة خاصة فى الأرواح.