في مثل هذا اليوم منذ 15 عامًا خصص 12 يوليو كـ"يوم لتقدير الأبقار"، وذلك لرفع مستوى الوعي حول الأبقار وتقدير كل ما يقومون به، ولكن الأمر لا يقف على ذلك فحسب هناك بعض الأشياء الغريبة التي تحدث خلال يوم تقدير البقر، وفى مثل هذا اليوم، هل تعلم أن البقرة تسببت فى يوم من الأيام فى ارساء مبدأ قضائيا صادرا من محكمة النقض منذ أكثر من 8 سنه، وتحديدا عام سنة 1939 فى قضية "سرقة مواشى"، تسبب هذا المبدأ فى حصول عدد من المتهمين على حكم بالبراءة، فالمحاكم المصرية كما هي مكتظة بالقضايا المتعلقة بالجرائم البشعة، منذ نشأتها، إلا أنها تتضمن أيضا قضايا تمتاز بالطرفة والغرابة في آن واحد.
ويتضمن أرشيف المحاكم واقعة، لمتهمين بسرقة "جاموسة"، وبعيدا عن الواقعة وطرفتها التي يهتم بها العديد من المتابعين والقراء، إلا أن مثل هذه القضايا تمتاز أيضا كونها تشمل العديد من المبادئ القضائية التي يهتم بها المختصون، خاصة حينما تصل وقائع النزاع إلى محكمة النقض التى تلعب دوراً هاماً فى توجيه المحاكم نحو الاستقرار والثبات، وهى تختص بمراقبة صحة تطبيق القانون أى التحقق من سلامة أعمال حكم القانون على الوقائع الثابتة فى حكم المحكمة الاستئنافية، ولم يكن من وظيفتها إعادة النظر فى هذه الوقائع سابقا، لأنها فى حقيقة الأمر كانت محكمة "قانون" لا محكمة "واقع"، إلا أنها في التعديلات الجديدة أصبحت تلعب الدورين معا "محكمة قانون" و"محكمة موضوع".
بداية الحكاية منذ أكثر من 80 سنه
وقائع القضية تعود سنة 1939 – أي منذ 80 سنه – حيث وجهت النيابة العامة اتهام لمجموعة من الأشخاص بسرقة بقرة وشروع في سرقة جاموسة، واحالتهم لمحكمة الجنح، وقضت محكمة أول درجة عليهم بالحبس – ما عدا متهم واحد كان هاربا – فصدر الحكم للمتهم غيابيا – وفى تلك الأثناء – قام المتهمين الذين صدر ضدهم الحكم حضوري بالاستئناف على الحكم لإلغائه، وبالفعل نظرت محكمة ثانى درجة "جنح مستأنف" القضية وهم "محبوسين"- لأن السرقة حكمها واجب النفاذ وليس فيها كفالة - ومحكمة جنح مستأنف قضت للمتهمين بالبراءة، وأسست حكم البراءة علي انتفاء واقعة السرقة أصلا وإن الموضوع كان عبارة عن مشاجرة وزج بهم في هذا الاتهام.
حكاية سرقة "بقرة" والشروع في سرقة "جاموسة" تسبب في إرساء مبدأ قضائيا
وذلك الحكم يطلق عليه حكم براءة مؤسس على أسباب عينية أو موضوعية، بمعنى أدق أن الواقعة لم تحدث من الأساس، فقرر المتهم الهارب الحضور لعمل معارضة هو الأخر كى يستفيد من براءة الآخرين، وبالفعل قام بعمل المعارضة، وقضت المحكمة له بالبراءة لحجية الحكم المستأنف للمتهمين الآخرين، ولكن فرحته لم تكتمل، لأن النيابة استأنفت وحضر في الاستئناف بشخصه ومحاميه الذي تضمنت مذكرة دفاعه أن واقعة السرقة ثابتة على المتهمين الذين حكم لهم بالبراءة وأن موكله ليس له علاقة بهم، وفي النهاية محكمة ثاني درجة ألغت حكم بالبراءة وحكمت عليه هو الوحيد بالحبس.
وبذلك لم يبقى للمتهم غير طريق أخير هو الطعن أمام محكمة النقض لإلغاء الحكم الصادر من محكمة جنح مستأنف حيث أرست محكمة النقض بسبب تلك الواقعة مبدأ قضائيا استفاد منه مئات المتهمين منذ تأسيسه حتى كتابة تلك السطور حيث ذكرت في حيثيات حكمها المقيد برقم 1233 لسنة 9 القضائية – الصادر بتاريخ 5 يونيه 1939: "إنه ما دام حكم البراءة للمتهمين الأخرين مؤسس علي أسباب عينية فإنه يستفاد منه كل المتهمين فاعلين أصليين أو شركاء احتراماً لحجية هذا الحكم، والمحكمة لا تملك سوى الحكم بالبراءة بخلاف مثلاً لو كان حكم البراءة مبنى علي أسباب شخصية لباقي المتهمين دون المتهم (الطاعن) فكان الوضع سيختلف".
دور محكمة النقض في التأصيل القانوني
وفى هذا الشأن – يقول الخبير القانوني والمحامى بالنقض عماد الوزير – أن محكمة النقض تقوم بدور هام فى إرساء واستخلاص القواعد القضائية من خلال توحيد القضاء واستقراره على مبادئ معينة، حيث تختلف المحاكم أحياناً فى تطبيق القانون وتتباين الأحكام بصدد أمر معين فيعرض النزاع على محكمة النقض لتقول كلمتها بشأنه، وقد يتم الطعن على حكم معين فتؤيده محكمة النقض أو تنقضه، وضمن هذه القضايا التى واجهها المشرع المصرى منذ القدم هى مدى قانونية حكم البراءة المحمول على أسباب عينية لأحد المتهمين، هل يستفيد منه باقى المتهمين فى الواقعة سواء كانوا فاعلين أصليين أو شركاء فى الجريمة؟ وهل يحوز حجية أمام المحكمة التى تنظر الدعوى لباقى المتهمين؟
وبحسب "الوزير" في تصريح لـ"برلماني": المُشرع المصرى أكد أن أحكام البراءة المبنية على أسباب غير شخصية بالنسبة للمحكوم لهم تعتبر عنواناَ للحقيقة سواء بالنسبة لهؤلاء المتهمين أو لغيرهم متى كان ذلك فى مصلحة أولئك الغير ولا يفوت عليهم أى حق مقرر لهم بالقانون، فالحكم النهائى الذى ينفى وقوع الواقعة المرفوعة بها الدعوى مادياَ، ويبنى على ذلك براءة متهم، يجب قانوناَ أن يستفيد منه كل من يتهمون فى ذات الواقعة باعتبارهم فاعلين أصليين أو شركاء سواء أقدموا للمحاكمة معاَ أم قدموا على التعاقب بإجراءات مستقلة، وذلك على أساس وحدة الواقعة الجنائية وارتباط الأفعال المنسوبة لكل من عزى إليه المساهمة فيها أصلياَ أو شريكاَ ارتباطاَ لا يقبل بطبيعته أية تجزئة ويجعل بالضرورة صوالحهم المستمدة من العامل المشترك بينهم، وهو الواقعة التى اتهموا فيها، متحدة اتحاداَ يقتضى أن يستفيد كل متهم من كل دفاع مشترك.
محكمة النقض منذ 80 سنه تتصدى للأزمة
وعن استفادة المتهمين من حكم البراءة لمتهم فى ذات القضية – فقد تصدت محكمة النقض لهذا الأمر منذ 80 سنة فى الطعن المُقيد برقم 1233 سنة 9 قضائية، وتحديداَ عام 1937 حيث تتحصل وقائع الدعوى فى أن الطاعن قدّم مع آخرين للمحاكمة بتهمة سرقة بقرة والشروع فى سرقة جاموسة، فقضى ابتدائياَ فى 12 مايو 1937 غيابياَ بالنسبة للطاعن وحضورياَ للباقين بإدانة الطاعن واثنين ممن قدموا معه للمحاكمة، فعارض الطاعن فقضى فى معارضته بتاريخ 23 مارس 1938 ببراءته مما نسب إليه اعتماداَ على أن الواقعة لا تخرج عن كونها مشاجرة عادية أثير فى خلالها الادعاء بالسرقة.
واقعة سرقة المواشى
وفى تلك الأثناء - ألقى الاتهام على المتهمين فيها جزافاَ بقصد الانتقام، ثم استؤنف هذا الحكم وحكم على الطاعن غيابياَ فى 14 نوفمبر 1938 بالإدانة، فعارض الطاعن فى هذا الحكم وذكر الدفاع عنه بجلسة المعارضة أن المواشى تسربت وأن المتهمين بالسرقة برئوا منها، وقد قضت المحكمة فى المعارضة بتاريخ 13 فبراير 1939 بتأييد الحكم المعارض فيه.
وجاء فى حيثيات الحكم حينها، أنه يتضح مما تقدم صحة ما جاء بوجه الطعن من أن الدعوى العمومية رفعت على الطاعن وآخرين بتهمة سرقة مواشى وشروع فيها، فحكم على الطاعن غيابياَ أمام الدرجة الأولى فعارض، وقبل الفصل فى معارضته صدر حكم نهائى من المحكمة الاستئنافية بناء على استئناف زملائه ببرائتهم، لأن الواقعة التى اتهموا فيها مشكوك فى صحتها، ثم قضى فى المعارضة للطاعن بالبراءة لقيام هذا الشك، ولكن المحكمة الاستئنافية لم تأخذ بوجهة النظر التى أوردها الحكم الاستئنافي النهائى بالنسبة لمن اتهموا مع الطاعن بنفس التهمة، وأدانته على أساس أنها لم تجد محلا للشك فى صحة وقوع الحادثة.
ضرورة استفادة المتهمين من براءة المتهم
ووفقا لـ"المحكمة" فإن الواقعة التى أدين فيها الطاعن هى بعينها الواقعة التى حكم فيها استئنافياَ – على أساس وجود الشك فى وقوعها – بالبراءة لمن كانوا متهمين معه باعتبارهم فاعلين أصليين مثله فيها، وحيث أن الطاعن وإن لم يكن طرفاَ فى هذا الاستئناف إلا أن الحكم النهائى الذى ينفى وقوع الواقعة المرفوعة بها الدعوى مادياَ ويبنى على ذلك براءة متهم فيها يجب قانوناَ أن يستفيد منه كل من اتهموا فى ذات الواقعة باعتبارهم فاعلين أصليين أو شركاء سواء أقدموا للمحاكمة معاَ أم قدموا على التعاقب بإجراءات مستقلة.
وذلك على أساس وحدة الواقعة الجنائية وارتباط الأفعال المنسوبة لكل من عزى إليه المساهمة فيها فاعلاَ أصلياَ أو شريكاَ ارتباطاَ بطبيعته أية تجزئة ويجعل بالضرورة صوالحهم المستمدة فيها من العامل المشترك بينهم، وهو الواقعة التى اتهموا فيها، متحدة اتحاداَ يقتضى أن يستفيد كل منهم من كل دفاع مشترك، وهذا ما تمليه المصلحة العامة، فإنه لا شك فى أن هذه المصلحة تضار دائما بتناقض الأحكام الجنائية – بحسب "المحكمة".
أسباب إنشاء المحاكم الجنائية
وفضلاَ عن ذلك - فإن الشارع قد أعدّ المحاكم الجنائية لتحقيق أغراض اجتماعية عامة تتصل بصميم شئون الجماعة، فسنّ لها نظاماَ خاصاَ يختلف عن المحاكم المدنية لتحرى الحقيقة المجردة بغض النظر عن أشخاص الخصوم فى الدعوى وطلباتهم، وكل ذلك يسوغ القول باعتبار الأحكام الجنائية المبنية على أسباب غير شخصية بالنسبة للمتهمين فيها عنواناَ للحقيقة، سواء بالنسبة لهؤلاء المتهمين أو لغيرهم متى كان ذلك فى مصلحة أولئك الغير ولا يفوت عليهم أى حق مقرر لهم بالقانون كما هو الحال بالنسبة للطاعن.