بات اليوم الفساد هو المعول الهدام والمرض الأخطر الذي يهدد الدول ويهدد كياناتها ويمس بالقيم الاجتماعية السامية التي تسود مجتمعاتها، ولعل من أبرز صور الفساد والتي تثقل كاهل الحكومات والمواطنين، تلك الجرائم والانتهاكات التي تمس المصلحة العامة وخاصة تلك التي ترتكب من قبل الموظفين والذين يمثلون جسم الدولة ولسان حالها فيما يتعلق بتأدية الخدمات العامة، هذه الجرائم التي تأخذ صوراً متعددة منها على سبيل المثال الرشوة والجرائم الملحقة بها واختلاس المال العام والتزوير والغدر.
وفى الحقيقة يخلط الكثيرون بين مختلف جرائم العدوان على المال العام، التي من الممكن أن يرتكبها الموظف العام، كجريمة الاختلاس والاستيلاء والغدر والتربح من الوظيفة، والإضرار العمدي وغير العمدي بالأموال، وغيرها من الجرائم التي تضر بالصالح العام، حيث أن جريمة الغدر من الجرائم التي يدور حولها العديد من الإشكاليات فهى جريمة "أخذ غير المستحق" الواردة في التشريع المصري أو ما تُعرف بجريمة "الغدر" والفرق بينها وبين جريمة الرشوة، وكذا التمييز بين جريمة الغدر وجريمة الاحتيال، ومسألة توافر صفة الجاني ومحل الجريمة، وطبيعة المال الذي ترد عليه جريمة الغدر، وعقوبة جريمة الغدر.
هل لـ"الغدر" عقوبة؟
في التقرير التالي، يلقى "برلمانى" الضوء على العديد من الإشكاليات المتعلقة بجريمـة الغـدر، فلم يرد لجريمة الغدر "أخذ غير المستحق" تعريف فى التشريع المصرى، وإنما اكتفى المشرع بذكر النص القانوني الذي يحكمها، حيث نصت المادة 114 من قانون العقوبات المصري على أن: "كل موظف عام له شأن في تحصيل الضرائب أو الرسوم أو العوائد او الغرامات أو نحوها، طلب أو أخذ ما ليس مستحقاً أو ما يزيد على المستحق مع علمه بذلك يعاقب بالإشغال الشاقة المؤقتة أو السجن"، وقد جرى الفقه الجنائي المصري على تسمية هذه الجريمة بالغدر، وهي تسمية مأخوذة من قانون العقوبات الفرنسي وهي مرادفة للمصطلح الفرنسي ويطلق عليها البعض اسم "la concussion" - بحسب الخبير القانوني والمحامي بالنقض محمد صادق.
"أخذ غير المستحق" أو "فرض المغارم"
في البداية - ويبدو أن عبارة "أخذ غير المستحق" أفضل من مصطلح "الغدر"، كونها الأقرب في الدلالة على ماهية هذه الجريمة، ذلك أن هذه الأخير لا يوحي بشكل جلي عن ماهية الجريمة، فهو من ناحية ليس من الجنس اللغوي المكون لركنها المادي، كما جرت العادة في تسميات الجرائم، ومن ناحية أخرى، فالغدر نعت من لسلوك الموظف في طلب أو أخذ ما ليس مستحقاً من الضرائب والرسوم لكنه ليس السلوك ذاته ولا أحد مكوناته، وتتلاقى الجريمتان في وحدة المصلحة القانونية المعتدى عليها ألا وهي نزاهة الوظيفة العامة، إلا أنه يجب ألا يقع خلط بينهما، إذ أنه يمكن التمييز بينهما من عدة وجوه، فمن حيث نطاق الركن المادي، نجده يقتصر في جريمة الغدر على صورتي الأخذ والطلب، بينما يتسع في جريمة الرشوة ليشمل فضلا عن هاتين الصورتين صورة القبول – وفقا لـ"صادق".
ومن حيث المقابل نجد الرشوة تستهدف دائماً تلقى مقابل للفعل يتمثل في قيام الموظف المرتشي بعمل من أعمال وظيفته أو بالامتناع عن عمل من أعمالها أو بالإخلال بواجب من واجباتها، بينما الغالب ألا يكون لحصول الموظف على ما لا يستحق في جريمة الغدر أي مقابل، فالضرائب أو العوائد أو الغرامات لا تفترض تقديم مقابل من الموظف الذي يحصلها، وأهم ما يميز بين الجريمتين هو سند التحصيل، فإذا طلب الموظف المال أو أخذه من الفرد زاعماً وجود سند تشريعي يلزمه بذلك كانت الجريمة غدراً، أما إذا استند في طلبه أو أخذه المال إلى أنه عطية أو هدية لقاء تحقيق غرض الرشوة دون أن يكون هناك إلزام بها فالجريمة رشوة – الكلام لـ"صادق".
مثال على الجريمة.. والتمييز بين جريمة الغدر وجريمة الاحتيال:
وتطبيقا لذلك فإنه إذا طلب الموظف المختص من شخص يريد أن يستخرج بطاقة تموينية مبلغاً من المال، فتكييف الجريمة يتوقف على سند هذا المبلغ، فإذا زعم الموظف أنه رسم لإخراج البطاقة فالجريمة غدر، أما إذا كان المبلغ مجرد عطية لقيام الموظف بالعمل المطلوب فالجريمة رشوة، وتتفق جريمة الغدر مع الاحتيال في كونهما استيلاء على مال الغير دون وجه حق، كما تتفق معها في إحدى صور الركن المادي للجريمة، وهي إذا قام الموظف بحمل الممول على دفع غير المستحق أو ما يزيد على المستحق بوسائل احتيالية، ولكن الاختلاف من عدة نواح هي:
1-ا لجاني في جريمة الغدر هو موظف عام له شأن في تحصيل العوائد المالية المستحقة للدولة، أما جريمة الاحتيال فإنها لا تتطلب هذا الشرط في الجاني.
2- الركن المادي في جريمة الغدر أوسع من نظيره في جريمة الاحتيال، لأن الجريمة تقوم بإكراه المجني عليه على الدفع أو من خلال حمله على الدفع سواء بالطلب أو باستخدام وسائل احتيالية أو بالأخذ، أما في حين أن الاحتيال لا يتم إلا باستخدام وسائل احتيالية مترافقة مع الكذب تخلق الوهم في نفس المجني عليه وتدفعه لتسليم المال.
3- لإرادة المجني عليه دور أساسي في جريمة الاحتيال، إذ عن طريق الخداع يوجه المحتال إرادة المجني عليه إلى تسليم المال، في حين أنه لا عبرة لإرادة المجني عليه أو رضائه في جريمة الغدر فهي تقع ولو كان المجني عليه عالما بأن ما يطلبه أو يأخذه الموظف غير مستحق أو يزيد عن المستحق.
4- من حيث المال محل الجريمة: فهو في جريمة الغدر ما لا يستحق أو ما يزيد عن المستحق من الأعباء المالية العامة والتي تأخذ شكل النقود غالبا، أما محل جريمة الاحتيال فقد يكون منقولاً أو عقاراً أو سندات.
توافر صفة الجاني ومحل الجريمة
يتطلب قيام جريمة الغدر توافر صفة معينة في الجاني لا تقوم الجريمة بدونها وهي صفة الموظف العام بالإضافة للركن المادي المتمثل في السلوك المادي لجريمة الغدر والذي يرد على ما هو غير واجب من الأعباء المالية العامة آو ما يزيد عما هو واجب منها.
أولاً: صفة الجاني:
يشترط لقيام جريمة الغدر أن تتوفر في الجاني صفة الموظف العام، وذلك بصريح نص المادة 114 من قانون العقوبات المصري بقولها: "كل موظف عام له شأن في تحصيل الضرائب"، كما يلزم فوق ذلك أن يكون للموظف شأن في تحصيل الضرائب أو الرسوم أو الغرامات أو العوائد ونحوها.
ويترتب على هذا الشرط ضرورة توفر صلة بين اختصاصات الموظف وبين عملية التحصيل ويكفي للقول بتوفر هذه الصلة أن يكون التحصيل مسنداً إلى الموظف أو مسموحاً له به بمقتضى القانون أو اللائحة أو بمقتضى القرار الإداري أو من مجرد التكليف الشفهي وتنظيم العمل في المكتب أو المصلحة.
ثانياً: محل الجريمة:
يتمثل محل جريمة الغدر في السلوك المادي الذي يأخذ صورتي الطلب أو الأخذ والمنصب على ما هو غير واجب من الأعباء المالية غير المستحقة، أو ما يزيد عما هو مستحق منها.
صور السلوك المادي لجريمة الغدر:
يقوم الفعل المكون للركن المادي لجريمة الغدر إكراه الموظف للممول أو حمله على أداء ما هو غير مستحق أو ما يزيد عن المستحق من الأعباء العامة، وذلك واضح من نص المادة 114، فإن المشرع المصري عاقب على مجرد الطلب واعتبر الجريمة تقع تامة بمجرد صدوره عن الموظف، وذلك بحسب المادة 114 عندما قالت: "كل موظف عام له شأن في تحصيل الضرائب أو الرسوم… طلب …".
وإذا كان السلوك المادي المكون للجريمة يتم بمجرد الطلب فمن باب أولى أن تقع الجريمة عندما يأخذ الموظف المكلف بالجباية ما هو غير مستحق أو ما يزيد عن المستحق، وذلك كما لو زعم الموظف بأنه يترتب على المواطن المراجع رسم لخزينة الدولة لا وجود له حقيقةً أو كما لو كان مبلغ الضريبة المستحق على الشخص 2000 جنيه، فأخذ الموظف 3 آلاف جنيه.
وقد غطت المادة 114 هذه الصورة من صور الركن المادي لجريمة الغدر عندما جاء فيها: "كل موظف عام له شأن في تحصيل الضرائب…طلب أو أخذ"، ولابد من الإشارة أخيراً إلى أن المشرع المصري قرر استبعاد القبول كصورة لوقوع جريمة الغدر، فإذا أخطا الممول في تحديد المبلغ المستحق عليه فظنه أكثر من حقيقته ووعد الموظف أن يدفعه في المستقبل، فقبل الموظف منه هذا الوعد فهو لا يرتكب هذه الجريمة.
طبيعة المال الذي ترد عليه جريمة الغدر
يُشترط لقيام جريمة الغدر قانوناً أن ينصب سلوك طلب أو أخذ غير المستحق على الضرائب أو الرسوم أو الغرامات أو ما سوى ذلك من التكاليف المالية العامة، وقد أورد ذكر هذه التكاليف العامة على سبيل المثال لا الحصر في المادة 114 من قانون العقوبات المصري ما يلي: "كل موظف عام له شأن في تحصيل الضرائب أو الرسوم أو العوائد أو الغرامات أو نحوها"، ومعيار الأموال التي ينصب عليها سلوك الغدر هو التكليف العام من الدولة.
وبناء على ذلك لا يعد في حكم هذه الأموال المبلغ المستحق للحكومة كأجرة لعقار من أملاكها الخاصة أجرته إلى أحد الأفراد، وكذلك الأقساط المستحقة على المزارعين لمصرف التسليف، فلا تعتبر عبئاً مالياً عاماً وبالتالي فالمطالبة بمبلغ يزيد عليها لا تقع به جريمة الغدر، وكذلك لا يُعد مرتكباً لهذه الجريمة المحضر الذي يحصل لحساب المحكوم له من ثمن بيع منقولات المحكوم عليه على مبلغ يزيد.
القصد الجنائي
جريمة الغدر جريمة عمدية لابد لقيامها قانوناً من توافر القصد الجنائي، ويكفي هنا توفر القصد العام، وهو اتجاه إرادة الفاعل إلى طلب أو اخذ العبء المالي مع علمه بأن المطلوب أو المأخوذ ليس مستحقاً أصلاً للدولة، أو لا تتوافر فيه بعد شروط استحقاقه أو يزيد على مقدار ما هو مستحق.
ويترتب على ذلك انتفاء القصد الجرمي لدى الفاعل وبالتالي انتفاء الجريمة، إذا كان يجهل بأن المبلغ الذي طلبه أو أخذه ليس مستحقاً أصلاً، أو يزيد على ما هو مستحق، أو وقع في غلط بشأن مقدار المبلغ، ولا أهمية بعد ذلك لما إذا كان جهل الموظف أو غلطه على هذا النحو مرده إلى عدم إلمامه بقواعد القانون المالي أو الإداري المنظمة لمثل هذه الأمور، إذ القاعدة بأن الجهل بأحكام قانون غير جزائي يأخذ حكم الجهل بالوقائع، وينفي بالتالي وجود القصد الجنائي.
عقوبة جريمة الغدر
تنص المادة 114 منه على أن: "كل موظف عام له شأن في تحصيل الضرائب أو الرسوم أو العوائد أو الغرامات أو نحوها طلب أخذ ما ليس مستحقا، أو ما يزيد على المستحق مع علمه بذلك يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن".