الطلاق البائن في الإسلام له صورتان، فالطلاق البائن إما أن يكون بائنًا بينونة صغرى أو بائنًا بينونة كبرى ومعنى الطلاق البائن بينونة كبرى في الإسلام هو أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاث طلقات فهذا هو الطلاق البائن بينونة كبرى، ولا تحل له إلا أن تنكح زوجًا آخر ثم إذا طلقها هذا الأخير جاز للأول الزواج بها، أما إذا طلقها الطلقة الأولى، أو الثانية، وتركها حتى انقضت عدتها، ولم يراجعها: فهي البينونة الصغرى، فلا تحل لمطلقها إلا بعقد ومهر جديدين وإذنها ورضاها.
متى ترجع المطلقة من طلاق بائن لزوجها الأول ؟
أما إذا كانت الطلقة على الإبراء هى الطلقة الثالثة، فقد بانت منه بينونة كبرى، فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، نكاحا شرعيا يحصل به وطء كامل، وليس بنية التأقيت؛ لقوله تعالى: "فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أن يَتَرَاجَعَا أن ظَنَّا أن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ" - البقرة : 230 - ففى الصحيحين عن عائشة - رضى الله عنها- قالت: "جاءت امرأة رفاعة القرظى إلى النبى -صلى الله عليه وسلم- فقالت: كنت عند رفاعة، فطلقنى فبت طلاقى، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فقال:"أتريدين أن ترجعى إلى رفاعة ؟ لا، حتى تذوقى عسيلته ويذوق عسيلتك".
إسقاط طلقتين وتعديل الوصف في اشهاد الطلاق
في التقرير التالى، يلقى "برلماني" الضوء على إشكالية في غاية الأهمية تتعلق بإسقاط طلقتين وتعديل الوصف في اشهاد الطلاق، وهل تهدد مثل هذه الدعاوى مسألة الطلاق الشفوى؟ خاصة بعد أصدار الدائرة "22" أحوال – بمحكمة استئناف الإسكندرية – حكما فريدا من نوعه، بإسقاط طلقتين وتعديل الوصف في اشهاد الطلاق، بعد أن رفضت محكمة أول درجة الدعوى باعتبارها غش وتدليس، بينما محكمة الاستئناف قبلت الدعوى مستندة على فتوى دار الإفتاء لأن تسليمها من كفايات الطلاق التي تحتاج لـ"نية الطلاق" – بحسب الخبير القانوني والمحامى بالنقض أحمد شوقى الأسيوطى.
في البداية – التلفظ بالطلاق على نوعان : صراحة أو دلالة وهو الذي يقع بألفاظ الكناية التي تدل عليه، والطلاق بلفظ الكناية لا خلاف بين جمهور الفقهاء على وجوب استحضار "نية الزوج" من اللفظ المستخدم لأنه لفظ مبهم مثل قول الزوج لزوجته "تحرمي عليَ"، أو "أنتِ عليَّ حرام"، أو "عليَّ الحرام من زوجتي" أو "أذهبي لحال سبيلك"، أو "فارقتك"، أو "فارقيني" .. إلخ، كذلك إتفق جمهور الفقهاء وعلى رأسهم فقهاء الأحناف على أن لفظ الطلاق الصريح الغير معلق على شرط يقع في الحال بلا نية حتى لو كان لهوا أو مزحا أو ادعى الزوج أنه من سبق اللسان، وذلك لحديث يذكرونه في هذا الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه: "ثلاثة جدهن جد وهزلهن جد الطلاق والرجعة والنكاح"، وهذا هو الراجح في المذهب الحنفي بلا خلاف كما جاء في بدائع الصنائع للإمام الكاساني الحنفي – وفقا لـ"الأسيوطى".
شرط وجود النية مع لفظ الطلاق الصريح
وأشترط الظاهرية والإمامية "مذهب شيعي" وجوب النية مع اللفظ الصريح، وللطلاق ركن يجب توافره في الزوج وهو أن يكون عاقلا فلا يقع طلاق المجنون والصبي، أما طلاق السكران فقد اختلفوا فيه بين من كان سكره اختياريا "شرب الخمر" أو كان السكر من التداوي "بالبنج وغيره مما يذهب العقل"، فقالوا إن السكران سكر اختياري يقع طلاقه قضاء ولا يقع ديانة عقوبة له على سكره، والبعض كالشافعية قالوا لا يقع، أما طلاق المكره فعند الأحناف يقع طلاق المكره بخلاف جمهور الفقهاء على أن للإكراه شرط هو أن يغلب الظن على الزوج أنه يلحقه الأذى في نفسه أو في ماله كما عند المالكية وأشترط الحنابلة أن يكون الإكراه بغير حق – الكلام لـ"الأسيوطى".
هذا وفي الآونة الأخيرة ظهرت حالات لأزواج قاموا بإيقاع الطلاق البائن بينونة كبرى "الطلقة الثالثة" وتوثيقه رسميا ثم بدا للزوجين أن يتراجعا ويستمرا في علاقتهما الزوجية، وهو أمر محال بعد الطلقة الثالثة فيلجأ الزوج إلى الإدعاء أما صدقا أو احتيالا بأن الطلقتين الشفويتين السابقتين أو إحداهما كانت بغير نية رغم مجيئها بلفظها الصريح "أنتِ طالق"، ويتوجهان إلى دار الإفتاء لإستصدار فتوى بأنه كان لا يقصد الطلاق وأنه كان في حالة غضب شديد أو كان يقصد التهديد فقط في الطلاق المعلق على شرط "أنتِ طالق إن فعلتِ كذا"، ويحصلون على الفتوى بعدم وقوع الطلاق في دين الله عز وجل – هكذا يقول الخبير القانوني.
كيف يهدد إسقاط الطلاق الاستقرار الأسرى؟
ولما كان هذا الأمر يهدد الاستقرار الأسري ويمس سلامة المجتمع فقد فرق الفقهاء بين ما لا يقع في الدين ولكنه يقع في القضاء حفظا للمجتمع وضمانة لسلامة العلاقات والمعاملات وتعلق حقوق الغير به، كأن يطلق الرجل زوجته الطلقة الثالثة، فتنقضي عدتها فتتزوج من آخر ثم يأتي الزوج السابق ويقول لقد كنت مازحا ولا أنوي الطلاق وأني راجعتها فهنا إذا رفع الأمر للقضاء كان الحكم أنه طلاق، وقد استوعبت كتب الفقة بيان ما يقع قضاء ولا يقع ديانة وأن ما يقع قضاء هو كل ما كان بلفظ صريح لا يحتمل التأويل أو وضع في الأصل لهذا المعنى وهو في غيره مجازا ولا يصرفه عن ظاهره إلا نية المتلفظ به .
القصد من الوقوع قضاء وعدم الوقوع ديانة
وبين الفقهاء أن القصد من الوقوع قضاء وعدم الوقوع ديانة أن العمل بالظاهر يؤدي إلى استقرار المعاملات في المجتمع ويغلق أبواب العبث والتلاعب بالشريعة، أما الأخذ بالباطن والنوايا فهو يفتح الباب أمام من لا دين له للتحايل على شريعة الله وإفساد المعاملات التي تكون قد ترتب على تلفظه مثل زواج مطلقته من آخر فيعمد إلى إفساد هذا الزواج بإدعاء أنه كان كاذبا ولم يقصد الطلاق، والعمل بالظاهر في ألفاظ الطلاق الصريحة هو مذهب محكمة النقض المصرية على سبيل المثال الطعن رقم 11 لسنة 40 ق جلسة 20 مارس 1974 حيث قررت أنه: "المنصوص عليه شرعاً أن الإقرار بالطلاق كاذباً يقع قضاء لا ديانة، وأن الرجل إذا سئل عن زوجته فقال أنا طلقتها وعديت عنها، والحال أنه لم يطلقها، بل أخبر كاذباً، فإنه لا يصدق قضاء - في إدعاء أنه أخبر كاذباً - ويدين فيما بينه وبين الله تعالى"، وذلك في الطعن المقيد برقم 11 لسنة 40 قضائية "أحوال شخصية"، أي أن الطلاق في هذه الحالة يقع قضاء حتى وإن كان لا يقع ديانة وأن الطلاق باللفظ الصريح يقع طلاقا دون حاجة لمعرفة نية الزوج.
رأى محكمة النقض في الأزمة
ويضيف "الأسيوطى": على ذلك فإذا حضر الزوج أمام المأذون لتوثيق طلقته الثالثة وأقر أمامه بأنه سبق له أن طلقها مرتين شفويتين وأثبت المأذون ذلك بوثيقة إشهاد الطلاق، فلا يجوز للقاضي الشرعي إذا ما رفع الزوج إلى القضاء بطلب إلغاء الطلقتين السابقتين أو أحداهما أن يجيبه إلى دعواه عملا بالراجح في المذاهب الأربعة الذي تجعل الطلاق واقع قضاء حتى ولو كان كاذبا في اقراره ناويا الطلاق أو لم ينوه، وإن كان هذا الذي استقر في كتب الفقه وأحكام المحكمة العليا (النقض) لم يحول دون إصدار المحكمة الشرعية الاستئنافية بالأسكندرية (مأمورية استئناف دمنهور) الدائرة 32 أحوال أن تقضي بجلسة 18/5/2022 في القضية رقم 5327 لسنة 77 ق بإلغاء حكم محكمة أول درجة وقبول دعوى الزوج والقضاء بإسقاط الطلقتين الشفويتين الأولى والثانية وتعديل الوصف في إشهاد التطليق الموثق.
وهنا لسنا في معرض التعليق على الحكم القضائي، ولكن ذلك لا يحرمنا حق النقاش لإثراء الفكر القانوني وإن كانت المحكمة في حكمها المذكور قد إرتكزت على الفتوى الصادرة من دار الإفتاء، والتي طالعناها فوجدنا بدورنا قصورا فيها حيث قررت أن الطلاق لا يقع ديانة بعدما حضر الزوج أمامها وأقر بأنه لم يقصد الطلاق، وكان يجب على المفتي أن يبين أنه وإن كان لا يقع ديانة، ولكن الفقهاء على أنه يقع قضاء إذا رفع إلى القاضي بل أن حيثيات الحكم الصادر من محكمة استئناف الإسكندرية يبين منه أن الزوج ذكر تعرضه للإكراه عند التطليق وطلب إحالة الدعوى للتحقيق وسماع الشهود لإثبات الإكراه الواقع ضده ولو أن المحكمة استجابت له لكان في رأينا القانوني أولى وأسلم لأن طلاق المكره لا يقع عند الجمهور عدا الأحناف كما أنه يسد الباب قليلا أمام من يقصد التلاعب بالشرع حيث يصعب عليه أمور الإثبات .
ضرورة الأخذ بالظاهر لحفظ البيوت من الخراب
وأخيرا يؤكد الخبير القانوني: أما تركها لكل إدعاء لا برهان عليه سوى نفس المتلفظ وهوى قلبه وضميره، فإنه يهدد الإستقرار على النحو الذي ذكرنا ويؤدي إلى خراب البيوت وتهديد الأسرة المصرية لاسيما إذا ما كانت المطلقة قد تزوجت من آخر وربما أنجبت ورزقت منه أولادا، وأن علماء الشريعة وسادة مذاهبها لو رأوا في ايقاع ما يقع ديانة بدليل باطني في القضاء أيضا هو أصلح للأمة لما تراخى أحدهم لاسيما وأن الوزر والذنب يتحمله الزوج وحده، ولكنهم اختاروا تكذيبه ولو كان صادقا، فحفظ المجتمع أولى من حفظ رجل واحد لا ندري صدق أم كذب مع الله، وعلى ذلك نرى في رأينا القانوني العودة للإلتزام بمبادىء الشريعة ومقرراتها ومقررات محكمة النقض في باب الأخذ بالظاهر حفظا لسلامة المجتمع واستقراره وانضباط علاقاته بضوابط واضحة ظاهرة مستقرة .
الخلاصة: كيفية التحايل لإسقاط الطلقتين
يشار إلى أن السواد الأعظم من القانونيين والدستوريين يروا أن دعوي تعديل وصف الطلاق من طلاق بائن بينونة كبرى لطلاق بائن بينونة صغري المرجع الأساسي فيها هي الشريعة الإسلامية، وذلك استنادا الي أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع والمستمد منها قانون الأحوال الشخصية، فقد يقع الزوج تحت إكراه يجعله يقوم بطلاق زوجته غيابيا ليتجنب الضرر المحدق الذي يقع عليه وعلي أسرته أو أن يصاب الزوج بمرض نفسي يفقده اتزانه العقلي حتي لا يعلم ما يقوم به، فيسرع بالطلاق وهو في غير إدراك ومسلوب الإرادة.
وقد يكون هذا الطلاق هو الطلاق الثالث له فقد أعطاه القانون طبقا للشريعة الإسلامية الحق في اللجوء الى القاضي لإثبات ذلك وقد يستلزم الأمر تقديم فتوي من الأزهر الشريف تدعم موقفه أو أن يقدم ما لديه من أدلة ومستندات تثبت ذلك وفي هذه الحالة تحكم المحكمة بعدم الاعتداد بالطلاق الواقع منه الموثق بوثيقة الطلاق – ولكن - قد يتخذ البعض ذلك حيلة بغير الحقيقة بمحاولة مغايرة الحقيقة للتحايل علي الشريعة والقانون لإثبات أن الطلاق كان تحت إكراه أو لأفة العقل، وهو الذي يتحمل كافة الإثم في حالة الإدعاء بغير الحقيقة في ذلك.