العدوان على قطاع غزة، والذي بدأ منذ أكثر من شهر، ربما ليس جديدًا، حيث سبق للاحتلال وأن استهدفه من قبل مرات ومرات، إلا أنه حمل طبيعة استثنائية جراء الأهداف التي وضعتها الدولة العبرية على عاتقها، وأبرزها استغلال الزخم الناجم عن عملية "طوفان الأقصى"، لتصفية القضية الفلسطينية وتقويض حل الدولتين، والذي يمثل أساس الشرعية الدولية، عبر قيام الدولة الفلسطينة المستقلة ذات السيادة على حدود الرابع من يونيو وعاصمتها القدس الشرقية
ومن أجل تصفية القضية، تبنى الاحتلال أدوات متنوعة، لم تقتصر في جوهرها على الآلية العسكرية، وإنما امتدت إلى العديد من الدعوات المشبوهة، على غرار تهجير سكان القطاع من سكانه، وهو ما يعني تجريد الدولة المنشودة من أهم عناصرها، وهو مواطنيها، حيث لا توجد دولة بدون شعب، وهو ما يعكس خطورة الدعوة، وتداعياتها الكبيرة على مستقبل القضية برمتها، وهو ما أدركته الدولة المصرية منذ اللحظة الأولى، وانعكس بشكل مباشر على أولوياتها في إدارة الأزمة، والتي انصبت بشكل أساسي على حماية حق فلسطين التاريخي، متجاوزة الحالة اللحظية التي سعت الدولة العبرية نحو جر العالم إليها لتحقيق الهدف الأهم بالنسبة لها، وهو وأد الدولة المنشودة، وهو ما بدا في قمة القاهرة للسلام واللقاءات المتواترة التي عقدها الرئيس عبد الفتاح السيسي مع زعماء وقادة العرب، والتي بدت فيها القضية كأولوية قصوى.
فلو نظرنا إلى الموقف المصري خلال القمة الدولية التي عقدت على أراضيها، نجد أن ثمة تركيز على القضية ومستقبلها وشرعيتها، عبر التأكيد على الرفض المطلق لدعوات الاحتلال التي دارت حول تهجير سكان القطاع.
موقف القاهرة الرافض للتهجير القسري اعتمد مسارين رئيسيين، أولهما حماية الشرعية الدولية على النحو سالف الذكر، بالإضافة إلى كونه جريمة دولية تقع تحت بند "الإبادة الجماعية"، بحسب القانون الدولي، وهو ما ساهم في إعادة توجيه البوصلة الدولية، من حالة الانحياز المطلق وغير المبرر لإسرائيل، تحت ذريعة الحق في الدفاع عن النفس، فيما يتعلق باللحظة الراهنة، إلى نحو رؤية أكثر عمقا للمستقبل وهو ما بدا في استعادة الزخم لحل الدولتين، وهو ما بدا في عودته الى أحد أهم أولويات أوروبا الموحدة وقطاع كبير من دولها، وعلى رأسهم أسبانيا، والتي أكد رئيس وزراءها بيدرو سانشيز على مناقشة الاعتراف بدولة فلسطين داخل أروقة حكومته.
ولعل الرفض المصري لتهجير سكان القطاع، وما يمثله من صفعة للاحتلال، قد دفعه نحو تصعيد الوتيرة الانتقامية، عبر زيادة استهداف المستشفيات ودور العبادة والمساكن، وهو ما أسفر عن مقتل آلاف البشر معظمهم من النساء والاطفال، ناهيك عن إصراره على منع تمرير المساعدات الانسانية، وهو الأمر الذي تصدت له الدولة المصرية وتمكنت من فرض إرادتها فيه، وهو ما بدا في مرور أول قافلة مساعدات إلى القطاع، تزامنا مع انطلاق قمة القاهرة للسلام، في انعكاس لحجم التأثير الذي تحظى به مصر في إدارة القضية.
والحديث عن المساعدات الانسانية لا يقتصر على مجرد الضغط على الاحتلال، وإنما يمتد إلى بناء تحالف عالمي، في إطار إنساني، من خلال قيام دول عدة، وعلى رأسهم القوى الغربية بارسال شحنات إغاثية لسكان القطاع إلى مدينة العريش تمهيدا لنقلها للسكان المحاصرين بالقصف، وهو ما شكل مزيدا من الضغط على الحكومة الاسرائيلية، لتقدم مزيدا من التنازلات، وآخرها السماح بمرور الوقود.
ويعد تراجع الغرب عن مواقفهم، أحد أهم الأبعاد المهمة في إطار الانتصارات التي حققتها الدبلوماسية المصرية على حساب الاحتلال، في ظل إدراك واسع النطاق بالدور الذي تلعبه مصر، سواء في إطار القضية في نطاقها الواسع أو فيما يتعلق بالتفاصيل اللحظية المرتبطة بالازمة الراهنة، والتي تبدو الدول الغربية مرتبطة بجزء منها، وأبرزها ملف الأسرى، والمقيمين بالقطاع من الأجانب ومزدوجي الجنسية، خاصة وأن المساس بهم سوف يضع حكوماتهم في مأزق امام شعوبهم.
الثقة في قدرة الدولة المصرية في إدارة هذه الملفات الشائكة لم تقتصر على المستوى الحكومي الرسمي وانما امتدت إلى شعوب العالم، وفي القلب منهم الشعب الإسرائيلي نفسه، وهو ما يبدو في الاحتجاجات التي أطلقتها عائلات الاسرى امام السفارة المصرية في تل أبيب والمطالبة بالتدخل لوقف إطلاق النار وتحرير ذويهم.
اللجوء إلى مصر امتد إلى مسؤولي الحكومة الإسرائيلية، وهو ما بدا في الزيارة التي أجراها رئيس الشاباك للقاهرة لمناقشة مسألة الاسرى وهو ما يعكس قناعة راسخة لدى الطرف الاخر من الأزمة حول امتلاك مصر مفاتيح الحل، وأنها القادرة على الحفاظ على ما تبقى لهم من رصيد لدى الشارع بعد سلاسل من الهزائم المتتالية.