أدى التطور التقني والتكنولوجي في أدوات ووسائل الاتصال السمعي والبصري لاسيما مع وجود الإنترنت إلى إفراز وسائل تجسس، وتنصت، وتسجيل، وتصوير خفية حديثة ودقيقة، لاسيما في أجهزة الموبيل، وبات من السهل تسجيل حديث إنسان وتصويره فيديو دون علمه، ولا شك في عدم مشروعية هذا التسجيل والتصوير متى تم في مكان خاص.
من نتائج التطور الإلكتروني الذي أصاب العالم خلال القرن الماضي، وظهور ثورة الاتصالات الهائلة فيه أن أضحت الأحاديث الشخصية عامة والهاتفية خاصة عرضة للالتقاط والتسجيل والإفشاء، ولعل أبرزها ظهور أجهزة الاتصال الهاتفي النقالة التي تعتمد النظام اللاسلكي في الاتصال، تلك الهواتف النقالة لا يكاد شخص الآن يفتقر إليها وما رافقها من تقدم تقني في تسجيل المكالمات الصادرة منه والواردة إليه.
مدى تجريم تسجيل الفيديو أو الصوت من أحد أطراف اللقاء أو المحادثة دون علم الأخر
في التقرير التالي، يلقى "برلمانى" الضوء على إشكالية في غاية الأهمية تتمثل فى مدى تجريم تسجيل الفيديو أو الصوت من أحد أطراف اللقاء أو المحادثة دون علم الطرف الأخر، وذلك في الوقت الذى أصبحت فيه تلك المكالمات الهاتفية بواسطة تلك الأجهزة الصغيرة والدقيقة عرضة للتسجيل وبطرق مختلفة، وبالتالي عرضة للإفشاء، وعليه فقد أصبح من اليسير أن نجد العديد من المكالمات الشخصية التي نجريها أو تلك التي قد أجريناها بتلك الأجهزة النقالة قد تم تسجيلها وحفظ تفاصيلها الصوتية الدقيقة، وبالتالي قد تقدم كدليل في الاتهام – بحسب أستاذ القانون الجنائي والمحامي بالنقض ياسر الأمير فاروق.
فى الحقيقة - يدق الأمر حين يكون الضحية طرف في لقاء أو محادثة مع الجاني أو يكون هو البادي بالاتصال به أو الذهاب إليه، فيقوم الأخير بتصويره خفية أو تسجيل حديثه معه دون علمه، إذ قد يقال برضا الضحية المانع من التجريم، وبالتالي مشروعية التصوير والتسجيل، وأية ذلك أن المادة 309 مكرر من قانون العقوبات، جعلت من رضا المجني عليه سبب لإباحة التسجيل و التصوير، وافترضت هذا الرضا أن تم في اجتماع على مرأى من الحاضرين، إذ نصت على أن: "يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة كل من اعتدى على حرمة الحياة الخاصة للمواطن وذلك بأن ارتكب أحد الأفعال الآتية في غير الأحوال المصرح بها قانوناً أو بغير رضاء المجني عليه – وفقا لـ"فاروق":
أ-استرق السمع أو سجل أو نقل عن طريق جهاز من الأجهزة أياً كان نوعه محادثات جرت في مكان خاص أو عن طريق التليفون.
ب-التقط أو نقل بجهاز من الأجهزة أياً كان نوعه صورة شخص في مكان خاص.
المشرع اعتبر "الرضا" هو الشرط المانع من التجريم
فإذا صدرت الأفعال المشار إليها في الفقرتين السابقتين أثناء اجتماع على مسمع أو مرأى من الحاضرين في ذلك الاجتماع، فإن رضاء هؤلاء يكون مفترضاً، ويعاقب بالحبس الموظف العام الذي يرتكب أحد الأفعال المبينة بهذه المادة اعتماداً على سلطة وظيفته ويحكم في جميع الأحوال بمصادرة الأجهزة وغيرها مما يكون قد استخدم في الجريمة، كما تحكم بمحو التسجيلات المتحصلة عنها أو إعدامها.
ونصت المادة 309 مكرر (أ): يعاقب بالحبس كل من أذاع أو سهل إذاعة أو استعمل ولو في غير علانية تسجيلاً أو مستنداً متحصلاً عليه بإحدى الطرق المبينة بالمادة السابقة أو كان بغير رضاء صاحب الشأن، ويعاقب بالسجن مدة لا تزيد على خمس سنوات، كل من هدد بإفشاء أمر من الأمور التي تم التحصل عليها بإحدى الطرق المشار إليها لحمل شخص على القيام بعمل أو الامتناع عنه، ويعاقب بالسجن الموظف العام الذي يرتكب أحد الأفعال المبينة بهذه المادة اعتماداً على سلطة وظيفته، ويحكم في جميع الأحوال بمصادرة الأجهزة وغيرها مما يكون قد استخدم في الجريمة أو تحصل عنها، كما يحكم بمحو التسجيلات المتحصلة عن الجريمة أو إعدامها.
من حق الإنسان أن يحيا حياته الخاصة بمنأى عن العلانية
وفى الحقيقة الرضاء المانع من تجريم تسجيل الحديث أو تصوير الفيديو أو التقاط الصور يتعين أن يتوافر فيه عدة شروط هي أن يكون الرضاء بالتنصت صادرا عن ذي صفة، وهو الشخص الذي يراد التنصت على محادثاته أو التقاط صورة، وبالتالي يجب رضاء جميع أطراف الحديث، إذ لا شك في أن من حق الإنسان أن يحيا حياته الخاصة بمنأى عن العلانية، فالحق في الحياة الخاصة كما عبرت عنه محكمة النقض الفرنسية قطعة غالية من كيان الإنسان الذي قد يري أن يبوح بمكنون نفسه لمن يأنس إليه دون حرج أو خوف من أن يكشف أسراره ويفضح خصوصياته.
متى يكون التنصت مشروعا؟
ولهذا حرص دستور 2014 المصري في المادتين 57 و58 على حماية وسائل الاتصال بكافة أنواعها وحظر المساس بسرية الاتصالات والرسائل الالكترونية إلا بضوابط صارمة، ومع ذلك يذهب جانب من الفقه الأجنبي إلى أن التنصت والتسجيل يعتبر مشروعا متى قام به أحد أطراف المحادثة، لأن المتحدث الذي يبوح بالمعلومات إلى محدثة يتعرض لاحتمال قيام هذا الأخير بإعلانها للغير أو القيام بتسجيلها أو سردها في ذكرياته، فالمحادثة تنطوي على تبادل الأخبار الخصوصية، ومن ثم يكتفى برضاء أحد طرفي المحادثة.
تجريم تسجيل وتصوير خصوصية الغير
وهذا الرأي محل نظر - ذلك أنه ليس من حق الشخص أن يسجل أو يصور خصوصية الغير الذى يحادثه أو يلتقى به، إذ يجب أن ينظر للخصوصية ليس فقط من جانب أحد أطراف الحديث، وإنما من جانب كل اطرافه فلو تعددوا وجب الحصول على موافقة أصحاب الشأن جميعا، فالأمر هنا متعلق بتشابك بين مجموعة من الخصوصيات لا بخصوصية فرد بعينه ولا يبيح لقاء شخص أو تحادثه لأخر الحياة الخاصة، لهذا الشخص بل أن من تتداخل حياته الخاصة مع الغير مطالب أكثر من غيره بالمحافظة على خصوصيات شريكه، ولهذا قيل بأن حرمة الأحاديث الخاصة ملك لجميع أطرافها، لأنها متعلقة بحياتهم الخاصة جميعا، ولذا لا يجوز تسجيل المحادثات أو تصوير القاء إلا بموافقة جميع أطراف الحديث أو إذن احدهما بالتسجيل أو التصوير، وإلا اعتبر اعتداء على حق محدثة في الخصوصية من أحد أطراف الحديث يوفر أركان جريمة الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة.
والقول بغير ذلك يفتح للشر بابا واسعا، ويجعل حياة الناس كابوس لا يطاق بل أنه في بعض الأحيان يحيك أحد الأطراف للآخر خطة الإيقاع به، فيظهر محبته للآخر حتى يقع في شباكه، فيحصل منه على أسرار خاصة ثم يحاول ابتزازه، ولقد عرضت العديد من القضايا على القضاء الفرنس والأمريكي، واتخذت المحاكم موقفا صارما ازائها وصحيحا كذلك، إذ دمغت مسلك المفشى بعدم المشروعة ووصفته بأنه شخص خائن للثقة والأمانة، وإضافة بعض المحاكم أن المفشى شخص خرب الذمة معتل الضمير تصيد ضعف صديقه، وما يمر به من ضيق واضطراب، وأوهمه بحبه كي يأمن جانبه ويثق فيه، فيكشف له عما يجول بخاطره ويعترف له بمشاعره نحوه ثم يقوم بهتك ستره وسره.
واقعة حدثت في إيطاليا
ولقد حدث في إيطاليا أن فتاة صادقت أحد الشخصيات العامة، ولمحت له بحبها واستدرجته من خلال تليفونها الخاص حتى بادلها الحب ووثق فيها، وكشف لها عن صفقات مشبوها أجراها بمساعدة بعض كبار موظفي الدولة، فقامت المذكورة بتسجيل هذه المكالمات وبعثت بها الي أحد الصحف والتي قامت بنشرها بعد تفريغها، وقدم الشخص ورفاقه الي المحكمة بناء على هذه الرسائل إلا أن المحكمة قضت ببراءته، وحثت الجهة القضائية على توجيه تهمة جريمة إفشاء الأسرار الي الفتاة التي حكم عليها فيما بعد بالسجن.
ورفضت المحكمة دفاع الفتاة بأن تلك الرسائل ملكها ومن حقها نشرها واطلاع الغير عليها، وأسست المحكمة الرفض على أن الرسائل المتبادلة بين طرفين على الماسنجر أو الوات ساب ملك لطرفيها ولا يحق لأي طرف دون موافقة الاخر أن يطلع عليها الغير أو ينشرها، وإلا وقع تحت طائلة القانون، وهذا قضاء سليم إذ من غشنا ليس منا، ومن سوء الخلق والغش كشف أسرار من وثق فينا وائتمنا على خصوصياته.
رأى محكمة النقض في الأزمة
ويختلف الوضع بطبيعة الحال أن قام المجنى عليه بتسجيل لعبارات السب الموجهة إليه بتليفونه، إذ لا شك فى مشروعية هذا التسجيل لعدم مساسها بالحياة الخاصة للمتهم، وفى ذلك تقول محكمة النقض - لما كان نص المادة 95 مكرراً من قانون الإجراءات الجنائية قد جرى على أنه : "لرئيس المحكمة الابتدائية المختصة في حالة قيام دلائل قوية على أن مرتكب إحدى الجرائم المنصوص عليها في المادتين 166 مكرراً ، 308 مكرراً من قانون العقوبات قد استعان في ارتكابها بجهاز تليفوني معين أمر بناء على تقرير مدير عام مصلحة التلغرافات والتليفونات وشكوى المجنى عليه في الجريمة المذكورة بوضع جهاز التليفون المذكور تحت الرقابة في المدة التي يحددها".
ومفاد ذلك أن المشرع فرض مباشرة الإجراءات المار ذكرها كي يوضع تحت المراقبة التليفون الذى استعان به الجاني في توجيه عبارات السب والقذف إلى المجنى عليه، بحسبان أن تلك الإجراءات فرضت ضمانة لحماية الحياة الخاصة، والأحاديث الشخصية للمتهم، ومن ثم فلا تسرى تلك الإجراءات على تسجيل الفاظ السب والقذف من تليفون المجنى عليه الذى يكون له بإرادته وحدها دون حاجة إلى الحصول على إذن من رئيس المحكمة المختصة - تسجيلها، وبغير أن يعد ذلك اعتداء على الحياة الخاصة لأحد، ومن ثم فلا جناح على المدعى بالحقوق المدنية إذا وضع على تليفونه الخاص جهاز تسجيل لضبط ألفاظ السباب الموجهة إليه توصلا إلى التعرف على الجاني - لما كان ذلك - فإن الدفع ببطلان هذا التسجيل يكون دفعا قانونيا ظاهر البطلان ولا على الحكم إن هو التفت عنه الطعن رقم 8862 لسنة 65 قضائية.