كثيرا ما يدفع المتهمين ببطلان الاعترافات الصادرة منهم حول كيفية ارتكابهم الجريمة لحصول تلك الاعترافات تحت وطأة الإكراه والتهديد به في مرحلة الاستدلال، بل إن كثيرا منهم لاحقا ينكر صدور هذه الإعترافات منهم، ويعدل عنها في مرحلة المحاكمة، ولهذا ظهر في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي وسيلة لجأت إليها إحدى الجهات المختصة وهي تصوير اعترافات المتهمين في القضايا بالفيديو صوت وصورة، بل وإعادة تمثيل المتهمين لارتكاب الجريمة وتصويرهم.
ولقد اختلفت مواقف عدد من المحاكم حول تلك الاعترافات، وإعادة التمثيل المصور فأعلنت بعض المحاكم مشروعيتها، بينما اعتبرتها محاكم أخرى غير مشروعة - كل بحسب اطمئنانه إليها من عدمه - ثم انتقلت تلك الظاهرة إلى بعض أعضاء النيابة العامة المحققين إذ لجأوا في العديد من القضايا الهامة إلى أن يطلبوا من المتهمين المعترفين إعادة تمثيل ارتكاب الجريمة وتصويرهم بغية تأكيد الإعترافات المنسوبة إليهم والحيلولة بينهم وبين إنكار الاعتراف لاحقا أو الدفع ببطلانه أمام محكمة الموضوع.
إعادة تمثيل المتهم لارتكاب الجريمة
في التقرير التالى، يلقى "برلماني" الضوء على إشكالية إعادة تمثيل المتهم لارتكاب الجريمة أو ما يُطلق عليه (المعاينة التصويرية)، والتطرق إلى مشروعية هذا التصوير من جهة وطبيعته من جهة أخرى، لا سيما مع عدم وجود نص في القانون ينظم هذا الإجراء واصطدامه بمبدأ الشرعية الإجرائية القاضي بألا إجراء جنائي يمس الحريات إلا بنص وحق المتهم في الصمت وألا يقدم دليل ضد نفسه وهى مسألة على حد علمنا لم يتناولها معظم الفقهاء رغم أهميتها – بحسب أستاذ القانون الجنائى والمحامى بالنقض ياسر الأمير فاروق.
موقف الفقه
في البداية - ذهب رأي إلى مشروعية التمثيل المصور بحسبانه توثيق لإجراءات التحقيق أو بالأحرى لاستجوابات واعترافات المتهمين، طالما روعيت ضمانات الاستجواب وأهمها حضور محام رفقة المتهم عند إعادة تمثيله الجريمة، وبشرط أن تكون إرادة المتهم حرة وشخصية المحقق معروفة – وفقا لـ"فاروق".
وذهب رأي آخر إلى عدم المشروعية، إذ إعادة تمثيل المتهم لإرتكاب الجريمة ليس إلا تأكيدا للاعتراف الصادر منه، وهذا الإعتراف يجب أن يصدر تلقائيا من المتهم دون طلب من المحقق، ومن ثم فليس للمحقق أن يطلب من المتهم الاعتراف بالجريمة من خلال إعادة تمثيل ارتكابها وإلا غدا مسلكه غير مشروع ولا يقدح في عدم المشروعية قبول المتهم أو رفضه – الكلام لـ"فاروق".
رأى محكمة النقض في الأزمة
إذا انتقلنا إلى أحكام القضاء نجد شبه استقرار على مشروعية إعادة تمثيل المتهم لإرتكاب الجريمة ولكن اختلفت الأحكام حول سنده لاسيما أحكام النقض إذ ذهبت تارة إلى أن إعادة التمثيل بمثابة استجواب وتارة أخرى إلى أنه مجرد توثيق لاعتراف المتهم، ففي حكم لمحكمة النقض أعلنت أن المعاينة التصويرية بمثابة استجواب يجب أن تحاط بضماناته وأهمها حضور محام ولم تتردد النقض في إبطال الإستجواب والإعتراف الوارد في المعاينة التصويرية لحصولهما دون حضور محام رفقه المتهم، كما ورد في الطعن المقيد برقم 5762 لسنة 82 قضائية.
ولكن في حكم لاحق لم تر أن المعاينة التصويرية استجواب، وإنما فحسب إجراء لاحق علي الاستجواب بغيه توثيق الاعتراف الحاصل في هذا الاستجواب، ووصفت تلك المعاينة بأنها قرينة على أن اعتراف المتهم قد صدر بمحض إرادته بغية توثيق الاعتراف ليكون حجة على المتهم إن عدل عنه أو جحده أو أنكر صدوره منه، وبالتالي لا يعيب تلك المعاينة التصويرية عدم حضور محام رفقه المتهم عند التصوير، طبقا للطعن رقم 10017 لسنة 88 قضائية.
تعارض إعادة تمثيل المتهم لارتكاب الجريمة في حقه في الصمت
وفى هذا الشأن – يقول "فاروق" - الحق أن المعاينة التصويرية اجراء غير مشروع وآية ذلك أن هذه المعاينة تنطوي علي انتهاك للحقوق الدستورية للمتهم كحق الصمت والدفاع وحياد المحقق بل إهدار لقرينة البراءة ومبادئ المحاكمة العادلة، وفهذه المعاينة التصويرية تحتال على حق المتهم في الصمت المقرر بالمادة 55 من دستور 2014 بالإيعاز له بالخروج عليه بطلب إعادة تمثيل الجريمة وما يصاحبه من اعتراف أو تأكيده وهو حق ثابت للمتهم ومعترف به في كافة النظم القانونية المقارنة، إذ لا يجبر متهم على تقديم دليل ضد نفسه.
ولا ريب كذلك أن المتهم لا يرد بخلده أبدا أو يتم تنبيه من المحقق أن المعاينة التصويرية قد تستخدم كدليل دامغ ضده وإلا ما أقدم على التمثيل والتصوير، إذ ذلك يعارض طبيعة الإنسان وفطرته وهو ما حدا بجانب من الفقه الفرنسي إلى اشتراط علم المتهم بأن تلك المعاينة قد تستخدم دليل ضده، وأيضا فان هذه المعاينة تهدر مبدأ حياد المحقق من خلال سعيه لجمع أدلة الإدانة ضد المتهم وإغلاق الباب أمامه مستقبلا لبسط ما يعتري اعترافه من عيوب أمام محكمة الموضوع بل وإنكاره أن لزم الأمر وهو حق يجب أن يكفله المحقق للمتهم لا أن يصادره وإلا غدا التحقيق باطلا لافتقاره للحيدة التي هي ضمانة أساسية لصيانة الحقوق والحريات عملا بنص المادة 94 من الدستور – هكذا يقول "فاروق".
علاقة المعاينة التصويرية بقرينة البراءة
وهو أمر أعلنه صراحة حكم النقض المنتقد الرافض لإعتبار المعاينة التصويرية استجواب حين قرر أن الغرض من المعاينة التصويرية توثيق الاعتراف الحاصل من المتهم حتى لا يدفع ببطلانه أو إنكار صدوره منه، كما أنه لو افترضنا جدلا أن المعاينة التصويرية هي تأكيدا لاعتراف المعترفين بالجريمة، فليس للمحقق أن يفعل ذلك طالما أنه ليس للمحقق أن يطلب من المتهم الاعتراف بإرتكاب الجريمة – طبقا لـ"فاروق".
بل أن تلك المعاينة التصويرية تهدر قرينة البراءة المفروضة في المتهم وتعجل بعقابه، وإدانته وتجعل محاكمته تحصيل حاصل وليس عادلة بالمخالفة للمادة 96 من دستور 2014 وفوق ذلك فإن هذه المعاينة لو اجريت في مكان عام وأمام الجمهور، فإنها تنتهك مبدأ سرية اجراءات التحقيق الابتدائي المنصوص عليه بالمادة 77 إجراءات جنائية وتسيئ للمتهم وتجعل الناس يصدرون ضده حكم فوري واجب النفاذ بالإدانة.
ما ورد على خلاف الأصل لا يقاس عليه غيره
ولا يصح قياس المعاينة التصويرية على الاستجواب، لأن تلك المعاينة وفيها مساس بالحقوق والحريات تكون وردت على خلاف أصل البراءة وما ورد على خلاف الأصل لا يقاس عليه غيره، وإنما يلزم دوما أن يقرره المشرع عملا بمبدأ الشرعية الإجرائية حيث لا إجراء جنائي إلا بنص كما أن ممتنع إذ المعاينة التصويرية تختلف عن الاستجواب، لأن فى الإستجواب يواجه المحقق المتهم بأدلة الإتهام التى تحت يده، ويحاصره بالأسئلة ويضيق الخناق عليه وهو يأخذ طابع الحوار حال أن المعاينة التصويرية يطلب المحقق من المتهم إعادة تمثيل الجريمة دون مواجهه أو محاصره المتهم – بحسب أستاذ القانون الجنائى.
ولا يقدح من ذلك وصف المعاينة التصويرية بأنها قرينه تعزيزية وليس دليل كامل، إذ القرينة نوعا من الأدلة غير المباشرة يصح الإرتكان إليها في الإدانة وعلي أي حال فقد فات حكم النقض الأخير أن نفي وصف الاستجواب عن المعاينة التصويرية لا يبطلها أن أجريت دون حضور محام رفقة المتهم عملا بعموم نص المادة 54 من دستور 2014 الناسخ للمادة 124 اجراءات الذي حظر التحقيق مع المتهم دون محام، ولم يستثن حالتى التلبس والاستعجال وهو ما لم تلاحظه محكمة النقض فى عامه أحكامها.
المعاينة التصويرية ليست استجوابا ولا توثيقا لاعتراف
ولا يعترض على ما تقدم بأن هذه العملية تساعد المحقق بشكل كبير على الوقوف على أدوار الجناة التي اقترفوها والتأكد من صدق أو كذب الاعتراف والتعارض إن وجد بين أقوالهم والأدلة الجنائية بمسرح الجريمة وتحديد دور كل من المتهمين ومدى مساهمة كل منهم فى الواقعة المرتكبة، إذ كل ذلك يجب ألا يتأتى على حساب المتهم، ويجب أن نضع فى الحساب أن المتهم هو الطرف الضعيف فى الخصومة الجنائية، إذ يقف اعزل فى مواجهة النيابة العامة التى تملك أسلحة فتاكة ضده ولا يملك سوى ضمانات مكتوبة فى القانون لا حياة لها إلا بتطبيقها ويجب على القضاء والنيابة العامة أعمالها إذ كلاهما من المفروض أنه الحارس الطبيعى للحقوق والحريات.
وما نراه أن المعاينة التصويرية ليست استجواب ولا توثيق لإعتراف بل هى اجراء مستحدث وقائم بذاته لم ينص عليه المشرع، وإنما جرى به العمل واقره القضاء وهو اجراء يتعارض مع مبدأ الشرعية الإجرائية، إذ وفقا لهذا المبدأ لا إجراء جنائي إلا بنص وهو مبدأ يرتكز على دعامة الثقة فى القانون لاتصاف قواعدة بالعمومية والتجريد والمساواة والوضوح حرص دستور 2014 على تقريره ضمنا فى المواد 92، 54، 57، 58، 62 إذ بمقتضي هذه النصوص قرر الدستور لزوم تنظيم المسائل المتعلقة بالحريات من خلال قانون، واستأثر بتنظيم ضمانات بعض الإجراءات الماسة بالحريات كقيد على القانون مثل تفتيش المساكن ودخولها وتفتيش الأشخاص والقبض عليهم ومراقبة المحادثات الخاصة، وهو مبدأ مقرر فى الدستور الفرنسي لسنه 1958 بمقتضي المادة 34 منه ورددته محكمة النقض الفرنسية بقولها أن المشرع وحده هو من يملك المساس بحرية الأفراد، وهى نتيجة لم تغب عن محكمة النقض، إذ قررت انفراد القانون بتنظيم تقييد حريات الأفراد، وثابر الفقه على ترديده.