وكانت آخر نتائج هذه السياسات هى ارتفاع التضخم فى تركيا لأعلى مستوياته خلال أكثر من 14 عاما أمس الجمعة، ليصل لنحو 16% على أساس سنوى مع ارتفاع أسعار الغذاء وهو ما يُظهر أثر انخفاض العملة التى لم يتمكن البنك المركزى من حمايتها.
وفقدت الليرة التركية خُمس قيمتها مقابل الدولار هذا العام بسبب عمليات بيعها المستمرة، مما دفع أسعار الوقود والمواد الغذائية والإيجارات للارتفاع بشكل كبير، كما أدى امتناع البنك المركزى التركى عن زيادة أسعار الفائدة إلى قلق المستثمرين الذين يرون أنه يتعرض لضغوط من الرئيس رجب طيب أردوغان.
وأظهرت بيانات من معهد الإحصاء التركى أن التضخم بلغ 15.85% على أساس سنوى فى يوليومدفوعا بزيادات في أسعار النقل والسلع المنزلية والمواد الغذائية، وعلى أساس شهرى زادت أسعار المستهلكين 0.55%.
وفاجأ البنك المركزى الأسواق الأسبوع الماضى بالإبقاء على أسعار الفائدة دون تغيير، وكرر أردوغان، الذى يصف نفسه بأنه "عدو لأسعار الفائدة"، دعوته إلى خفض تكاليف الاقتراض، وقال أردوغان قبل إعادة انتخابه فى يونيو إنه يخطط لممارسة سيطرة أكبر على السياسة النقدية.
كما دعا الرئيس التركى خلال مؤتمر جماهيرى في مدينة أرض روم شمال شرق تركيا، الأتراك لاستبدال مدخراتهم الدولارية بالليرة التركية، لإنقاذ العملة المحلية من الانهيار الذى تشهده.
وبحسب صحیفة "زمان" التركیة المعارضة، كرر أردوغان دعوته للمواطنین الأتراك بتحویل الدولارات الموجودة "تحت الوسائد" إلى اللیرة التركیة لدعم الاقتصاد.
واعتبر الرئیس التركى أن ھناك مؤامرة على بلاده قائلا: "أرى أن ھناك من یحاولون إركاع بلدنا، لوبى الفائدة یستھدف بلدنا"، قائلا "أنا أوجه كلامي لمن یمتلكون الدولار أو الیورو تحت الوسائد، اذھبوا وحولوا أموالكم إلى اللیرة التركیة حتى نبطل ھذه المؤامرة معا".
ویشار إلى أن العملة التركیة سجلت ھبوطا قیاسیا أمام الدولار الأمریكى من خلال تجاوز الدولار الواحد الـ5 لیرات تركیة للمرة الأولى على واقع العقوبات التي فرضتھا الإدارة الأمریكیة على وزیرى الداخلیة سلیمان صویلو ووزیر العدل عبد الحمید جول، على خلفیة عدم إفراج السلطات التركیة عن القس الأمریكى المعتقل أندرو برونسون.
كما أدت سياسات أردوغان المتعجرفة إلى أن تقوم إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بمراجعة التجارة التركية المعفاة من الضرائب فى أسواق الولايات المتحدة بموجب ما يعرف بنظام الأفضليات المعمم، بعد أن فرضت أنقرة رسوما انتقامية على سلع أمريكية قيمتها 1.78 مليار دولار ردا على رسوم واردات الصلب والألمونيوم الأمريكية.
وقد تؤثر هذه المراجعة على سلع قيمتها 1.66 مليار دولار تصدرها تركيا إلى الولايات المتحدة واستفادت من برنامج الأفضليات العام الماضى وتشمل السيارات ومكوناتها والحلى والمعادن النفيسة.
ويقود الرئيس التركى رجب طيب أردوغان منذ فترة حملة عسكرية كبيرة في شمال سوريا والعراق، وقال إنها بهدف محاربة الإرهاب، لكن المتابع للوضع سواء في سوريا أو فى المنطقة أو فى تركيا نفسها، يعلم جيدا أن هدف هذه العمليات ليس محاربة الإرهاب.
وتأكد هذا بعدما ثبت أن أردغان على علاقة قوية بقادة تنظيم داعش وكان يسمح لهم ببيع البترول المسروق من العراق وسوريا عبر أراضيه إلى إسرائيل، كما كانت تركيا الممر الآمن لأفراد هذه التنظيمات الإرهابية إلى سوريا والعراق، وملجأ لعلاج المصابين في المعارك.
وليس هذا فقط، فهناك العديد من الأسباب والأهداف الاقتصادية والتحركات التركية، أهمها استغلال الوضع السىء فى سوريا والمنطقة والفراغ الأمنى العام، بالإضافة إلى رغبة أردوغان فى أن يحصل على جزء من كعكة سوريا التى يتم تقسيمها الآن بين روسيا وإيران من جانب، وبين أمريكا وفرنسا وبريطانيا من جانب آخر.
وهذا الكلام يدعمه عدة مؤشرات سلبية يتعرض لها الاقتصاد التركى منذ فترة، تزامنا مع العمليات العسكرية التركية في سوريا والعراق التى لا تعدو إلا أن تكون للشو الإعلامى وبهدف إخفاء مشاكل الاقتصاد التركى.
وأول هذه المؤشرات هو ارتفاع معدل البطالة حيث يبلغ معدل البطالة فى تركيا حوالى 10% ويتوقع أن ينمو بنسبة 1% بحلول نهاية عام 2018، وهو ما يهدد بتآكل نتائج النمو العام للاقتصاد ويزيد من السخط الشعبى ضد أردوغان، وحسب بيانات من معهد الإحصاءات التركى، ارتفع معدل البطالة إلى 10.8% فى الفترة من ديسمبر إلى فبراير 2018، مقارنة مع 10.4% قبل شهر.
المؤشر الثانى، هو عجز الحساب الجارى الذى واصل الارتفاع من 33.7 مليار دولار فى نهاية 2016 إلى 41.9 مليار دولار خلال 2017، وذلك بسبب الإنفاق الحكومى، رغم ارتفاع الصادرات نتيجة ضعف الليرة التركية.
المؤشر الثالث، هو ارتفاع التضخم بشكل ملحوظ، حتى وصل إلى 16% كأعلى معدل تضخم خلال 14 عاما، بما فى ذلك زيادة السلع الوسيطة بنسبة 24%، وتفاقم معدل النمو السريع للأسعار بسبب انخفاض قيمة الليرة التركية، والتى انخفضت بنسبة 6.5% مقابل الدولار عام 2017، وتواصل التراجع القياسي في 2018 مما أدى إلى ارتفاع سعر الواردات.
المؤشر الرابع، هو اعتماد الاقتصاد التركى بشكل كبير على الأموال الساخنة، الآتية من الخارج، أى الاستثمارات السريعة قصيرة الأجل، وتوقعات زيادتها، وترجع توقعات زيادتها إلى بعض الأسباب الآنية على الساحة مثل سياسات ترامب الاقتصادية والمخاوف والاضطرابات الأمنية في الشرق الأوسط والتي تعمل بدورها على تحويل تلك الاستثمارات إلى ملاذات آمنة بديلة وتحول تركيا إلى ملاذ آمن لهذه الأموال.
والمؤشر الخامس، هو الضعف المستمر لليرة التركية أمام سلة العملات الدولية، وخاصة الدولار، ورغم أن هذا الضعف كان له نتائج إيجابية على نمو الصادرات التركية، إلا أنه يؤدى في نفس الوقت إلى ارتفاع تكلفة الواردات، وبالتالى ارتفاع الأسعار فى الداخل التركى، مما يزيد من الغضب الشعبى ضد أردوغان وحكومته.
وهذه المؤشرات تؤكد أن أردغان يسعى من وراء عملياته العسكرية فى شمال سوريا والعراق إلى أهداف اقتصادية بحتة، وإخفاء المساوئ الاقتصادية التركية التى بدأت تظهر بشكل واضح مؤخرا، خصوصا مع تقارير مؤسسات التصنيف الدولية السلبية عن الاقتصاد التركى، وآخرها تقرير مؤسسة موديز للأبحاث والتحلليلات المالية، الذى قالت فيه إن الضعف المزمن فى العملة التركية "الليرة" سلبى بالنسبة لتصنيف ديونها السيادية، ويمثل إشكالا للاقتصاد بوجه عام، مشيرة إلى الدرجة العالية من الانكشاف الخارجى وتدنى احتياطيات النقد الأجنبى.
وذكرت "موديز"، فى تقرير عن التوقعات الائتمانية لتركيا، أن الليرة معرضة لتجدد الضغوط، إذا أرجأت السلطات تنفيذ تعهدات التحرك لمواجهة ضعف العملة الرسمية عن طريق رفع سعر الفائدة...فهل يغير الرئيس التركى سياساته العدوانية فى المنطقة والرغبة فى السيطرة عليها بدعمه للجماعات الإرهابية وخاصة جماعة الإخوان الإرهابية؟