«صوت غزة» وائل الدحدوح.. كان ثابتا وصامدا، بكاميراته ورسائله، يخرج على الهواء فى الصباح والمساء وفى كل ساعة ودقيقة، يطلق صيحات المظلومين والمقهورين من أهل القطاع على الشاشات.. يتحدث بصوته الذى أصبح أقوى من رصاص إسرائيل، وصداه أكثر وقعا من مدافع تل أبيب.
وائل الدحدوح، فقد زوجته وأولاده وأفراد أسرته فصبر واحتسب، فقد أصدقاءه وزملاءه، فلم يعترض على قضاء الله، وفقد ابنه حمزة، وظل راضيا بقضاء الله وقدره، شامخا كـ«صبر أيوب»، يضرب أروع الأمثلة فى الحياة.
يقول محمود درويش، «على هذه الأرض سيدةُ الأرض، أم البدايات أم النهايات، كانت تُسمّى فلسطين، صارت تُسمّى فلسطين. سيدتى: أستحق، لأنك سيدتى، أستحق الحياة».. وهناك وائل الدحدوح، مات أصدقاؤه وأبناؤه وزملاؤه، لكنه استحق الحياة، ليحتضن فى جسده المثخن بالجراح المآسى التى يعيشها أهل غزة، يومًا بعد يوم، يموت واحد من دائرته وأحبابه، لكنه يعود لعمله أقوى وأقوى على الهواء، دون كلل أو ملل.
قالها محمود درويش: «ظهرى أمام البحر أسوار و لا.. قد أخسر الدنيا ... نعم.. قد أخسر الكلمات والذكرى.. لكنى أقول الآن: لا.. هى آخر الطلقات: لا».. هذه الكلمات لخصت أكثر من 100 يوم قضاها وائل الدحدوح، وهو ممسكا بـ«ميكروفونه» واقفا أمام الكاميرات، يواجه الاحتلال وجرائمه، حتى أصيب وقتل بجواره رفيق دربه المصور سامر أبو دقة الذى ظل ينزف لعدة ساعات دون أن يستطيع أحد إسعافه، واليوم وائل الدحدوح ، مصابًا، يخطو برحاله إلى مصر، أملا فى العلاج والعودة مجددا ليكمل حربه بالكاميرا والكلمات ضد إسرائيل.
بكلمات موجعة وصوت حزين، وأمل لا ينضب فى النصر والحياة، تحدث معنا الصحفى وائل الدحدوح، عن غزة، وفلسطين، وعن الجرح الشارد فى جسده يوميا بعد يوم، ناقلا للحرب ومرارتها، تحدث بصوت باهت ومنكسر، عن زوجته وأبنائه، يملأ الدمع كلماته عن «حمزة»، يطبطب بعبارته على ظهر فلسطين، ويحتضن فى إجابته «غزة وأهلها».. وإلى نص الحوار:
100 يوم من حرب غزة.. وأنت هناك تصمد وتقوى فى وجه ما يحدث.. هل وائل الدحدوح وزملاؤه يدفعون ثمن كشف جرائم الاحتلال؟
ما جرى هو ثمن كبير جدا وباهظ، وهو ثمن ما يقوم به الصحفيون من تغطية، حيث إن المحتل الإسرائيلى لا يريد للصحفى الفلسطينى أن يقوم بدوره وواجبه المهنى على أكمل وجه تجاه ما يجرى فى القطاع.
من الواضح أو المؤكد أن دور الصحفيين فى قطاع غزة كاشف وبقوة لجرائم إسرائيل، وهو ما دفع جيش الاحتلال لاستهداف 107 صحفيين استشهدوا حتى الآن.. ولربما يكشف هذا الخوف والقلق من الصحفيين وتأثيرهم.. كيف ترى ذلك؟
باختصار واضح قوات الاحتلال الإسرائيلى، لا تريد لعيون الحقيقية أن تكون فى الميدان، باعتبار أن إسرائيل قررت ارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية فى قطاع غزة، بهدم البيوت على سكانيها، وإزالة مربعات سكنية، وحصار غزة وإغلاق المعابر وقطع الكهرباء والمياه، وعدم السماح بدخول المساعدات وعمليات التدمير للبنى التحتية، واستهداف الكنائس والمساجد، بجانب سيارات الإسعاف وطواقم الدفاع المدنى والصحفيين.. وإسرائيل يبدو أنها لا تريد للصحفيين أن يكونوا عن قرب من هذه الأحداث، حتى لا يصبح ذلك عبئا على جيش الاحتلال الإسرائيلى، على الأقل أخلاقيًا على المستوى العالمى، وهذا ما يدفعها لاستهداف الصحفيين على المستوى العام لإخفاء ما يحدث.
لكن بالتأكيد الثمن باهظ ومؤلم وموجع جدا، نظير التغطية فى قطاع غزة، وتسليط الضوء على جرائم الاحتلال الإسرائيلى، حيث تم استهداف الأسرة والابن والبنت والبيت والمكتب والصديق، واستهدافى شخصيا، فما زالت بحاجة للعلاج.. ونحن نتحدث عن جرائم الاحتلال بحق 107 مصورين وصحفيين فلسطينيين فى هجمات مختلفة فى قطاع غزة، وإصابة آخرين واستهداف مكاتب صحفية وسيارات ومقدرات، وبالطبع كل هذه أثمان باهظة جدا دفعها الصحفيون الفلسطينيون فى قطاع غزة فى هذه الحرب.
تواجد الصحفيين فى قطاع غزة، تأثيره كبير جدا فى نقل الصورة والحقيقة.. فكيف ترى أهمية هذه الرسالة التى يقوم بها هؤلاء؟.. وما هو تأثير الكلمة والصورة فى هذه الحرب؟
نحن نقوم بواجبنا الأخلاقى والمهنى على أكمل وجه، بشكل واضح وشفاف ونزيه، وهذا أمر كفلته كل القوانين الدولية والمواثيق الإنسانية وفقا لمواثيق الشرف فى العمل الصحفى، وهذا الأمر نقوم به بمعزل عن التوصيفات الأخرى.. وتواجد الصحفيين فى قطاع غزة مهم، وكذلك استمرار عملهم بهذه الصلابة والقوة والشجاعة والحرص على المواصلة رغم كل هذه الأثمان الباهظة وكل هذه الأوجاع والآلام والجروح وهذه الدماء التى سالت، وهذا الثمن الذى تنوء بحمله الجبال.
ونؤكد أننا نقوم بواجبنا بمعزل على التأثيرات التى تسببت بها هذه الجهود وفى نهاية المطاف، فنحن صحفيون نقوم بواجبنا المهنى لحمل الرسالة الإنسانية النبيلة التى كفلتها القوانين.
وعندما يرى الناس الإخلاص والشجاعة فهم يطلقون الأوصاف المختلفة، وقد تتحول الرسالة الصحفية، والكلمة والصورة والجهد الذى يقوم به الصحفى بقوة تأثير أكبر بكثير من الرصاص والصواريخ التى تطلقها إسرائيل، وهذا ما يحدث على مستوى العالم.
استشهد عدد من أفراد أسرتك فى المرة الأولى.. وفوجئنا بعدها بلحظات بوجودك على الهواء تنقل جرائم الاحتلال.. وهكذا الحال لحظة استشهاد ابنك.. كيف تغلبت على كل هذا الوجع والفقدان، وتمكنت من الصمود وأنت تكمل رسالتك؟
المشاعر صعبة جدًا ولا توصف بالكلمات ولا تلمس ولا تحس، ولكن أستطيع أن أؤكد أنها أوجاع مثل البراكين تغلى فى قلوبنا، خاصة عندما تفقد الأعز والأكرم والأحب والبكر.. هذا ليس سهلا..عندما تفقد الإنسان المسؤول الكريم الشهم الحبيب.. تفقد شخصا كنت تراه كان يعلق آمالا كبيرة وأن يكون علامة فارقة فى هذه الحرب وأن يؤسس مرحلة جديدة من عمره.
حدثنى عن مشاعرك لحظة استشهاد أسرتك فى المرة الأولى ثم استشهاد حمزة؟
هذا الاستهداف قتل حمزة وغيبه لكن كأنه بالفعل يقتل هذا الطموح وكل هذه الأحلام والآمال، ويقتل القلب والروح، ولكن ماذا سنقول؟.. ما الذى فعله حمزة حتى يستحق هذا الاستهداف الذى رآه العالم بأكمله.. لقد قلت له طمن اخواتك ووالدتك دماؤكم لن تضيع.. ورسالتى قلتها يوم يوم تأبينه وأنا أرى جثمانه يوارى الثرى إلى مثواه الأخير، إلى أى شخص يرى العالم لا يتحرك تجاه هذه المجزرة التى يتعرض لها الصحفيون فى قطاع غزة.. يجب على هذا العالم أن يتحرك وأن يضع إسرائيل فى قفص الاتهام حتى يتوقف مسلسل الاستهداف والقتل وتتوقف هذه المجزرة بحق الصحفيين والفلسطينيين.
كيف ترى المواقف العربية وكذلك الموقف المصرى الصلب الداعم للشعب الفلسطينى، ومواجهة التهجير؟
بالطبع، نحن نثمن أى جهد تقوم به الدولة المصرية وباقى الدول التى تسعى لدعم حقوق شعبنا وتنتهى هذه الحرب والآلام والأوجاع التى يعيشها الشعب الفلسطينى.
التغطية للأحداث فى غزة، هى بمثابة «عملية انتحارية».. كيف ترى وتصف هذا العمل الصعب فى القطاع؟
نحن كنا شهودًاعلى مرحلة تاريخية استثنائية ومفصلية، وشهودًا على جرائم ارتكبت بحق الصحفيين والأسر الفلسطينية والشعب الفلسطينى، وشهودا على مسلسل تدمير منازل وإزالة مربعات وشطب أسر، وشهودا على كثير من الجرائم فى قطاع غزة.. وبالتأكيد هذا أمر صعب جدا وأتمنى أنه أيضا تكون هذه التغطية علامة فارقة بالتأكيد، وبالطبع، نتمنى أن يكون كل الإعلام العالمى وخاصة الغربى أن يتعامل بواقعية تجاه ما يجرى، وأن يرى بالعينين وأن يسمع بالأذنين ويقترب من الرواية التى تنبع من الواقع من الناس والمظلومين حتى يتصف بالعدل والتوازن والشفافية وحتى يكون رسولًا للحقيقة التى هى من حق المتلقين.
معركة أخرى تقوم بها جنوب أفريقيا على الساحة القضائية، فى محكمة العدل الدولية.. هل ترى أن هناك أملا فى هذه الخطوة لإيقاف جرائم إسرائيل؟
خطوة دولة جنوب أفريقيا، كانت محل ترحيب شديد جدا من المواطنين الفلسطينيين، فنحن وسط الشعب الفلسطينى، نعيش هذه المظلومية والأوضاع، وشعرنا أنهم فرحين بهذه الخطوة، حيث يتمنون من جميع الدول العربية والعالمية أن تحذو هذه الخطوة، لأنه أقل القليل فى نصرة الشعب الفلسطينى، الذى يتعرض لجرائم حرب.. ونتمنى أن تنجح محكمة العدل الدولية فى إدانة إسرائيل.. ورغم أن الشعب الفلسطينى، لهم تجربة مريرة وطويلة جدًا فى كثير من القرارات وقدرات إسرائيل على التملص من تبعاتها، وهذا الأمر بالتأكيد يشعرهم بالمرارة، ولكن فى نهاية المطاف، يعتبرون أن ذلك أقل القليل، وهى خطوة محل ترحيب.
ما هى رسالتك للصحفيين فى الوطن العربى والعالم؟
رسالتى للصحفيين الفلسطينيين، أقول إن هذه المسيرة يجب أن تستمر، وهذا الواجب يجب أن يكمل، ويجب أن يكون الصحفى الفلسطينى، دائمًا على مستوى الحدث، ومستوى ما يحدث فى القطاع، فقد أثبتم أنكم قادرون على الاستمرار رغم كل شىء، ورغم هذا الاستهداف، ورغم كل العراقيل، التى لم يشاهدها أحد فى الحروب السابقة، للعرب وأحرار العالم، يجب القيام بشىء وموقف وكلمة وتفاعل ما، تجاه زملائكم فى قطاع غزة وفلسطين، لأن فى نهاية المطاف الصحافة أسرة واحدة وجسد واحد، ويتوجب أن يكون هناك موقف تجاه ما يحدث فى قطاع غزة للزملاء الصحفيين.