يمثل الوقت في عالم الطب أكثر من مجرد عقارب ساعة تدور كما يظن البعض، بل هو الفارق بين الحياة والموت في كثير من الأحيان، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأمراض الخطيرة، فإن كل ثانية تحمل في طياتها أهمية قصوى، واعتبار تلك (الثانية) كنز لا يجب أن يمر هكذا، وتكمن أهمية الوقت في التعامل مع الأمراض الخطيرة في قدرته على التأثير المباشر على نتائج العلاج، خاصة أن مهنة الطب مهنة عظيمة إنسانية وأخلاقية وعلمية، وقد تميزت بين المهن الأخرى بتقاليد كريمة وميثاق شرف وقسم جرى العرف على أن يؤديه الطبيب قبل أن يبدأ مزاولة المهنة، أهم هذه الأعراف احترام الوقت مع المرضى.
على سبيل المثال لا الحصر - ففي حالات مثل الأزمات القلبية، السكتات الدماغية، وأنواع معينة من السرطان، يمكن أن يؤدي التأخير إلى تفاقم الحالة، وربما الوصول إلى نقطة اللاعودة، ومهنة الطب تستلزم ممن يزاولها صفات ومواهب خاصة هي الشفقة والرحمة والرفق بالغير والنزاهة وحب التضحية لخير المجتمع هذا فضلا عن الكفاءة وصفاء الذهن وقوة الملاحظة، ومزاولة هذه المهنة ليس مقصورا فقط على ما يتوده الطبيب من معرفة بخصائص الجسم البشرى، ولكن العمل من خلال واجبات وآداب على الطبيب مراعاتها والإلمام بها وبالنواحي القانونية التي تحكم مزاولة المهنة، أبرزها احترام الوقت مع المرضى.
مسئولية الوقت في الرعاية الصحية
في التقرير التالى، يلقى "برلماني" الضوء على إشكالية مسؤولية الوقت في الرعاية الصحية، ومطالبات بفرض الغرامات المالية على تأخير مواعيد الأطباء، وفى الحقيقة التأخر عن مواعيد الطبيب قد يكون مصدرًا للإزعاج للعديد من الأطباء والمرضى على حد سواء، فقد تفرض العديد من الممارسات الطبية غرامات مالية على المرضى الذين يتأخرون دون عذر مقبول عن مواعيدهم، يُعتبر هذا الإجراء وسيلة لتعزيز احترام الوقت وتحفيز المرضى على الالتزام بالمواعيد المحددة - بحسب أستاذ القانون الجنائى والخبير القانوني الدولى محمد أسعد العزاوي.
4 أهداف لتطبيق الغرامات
في البداية - تتفاوت غرامات التأخر بين الممارسات الطبية والبلدان، ففي بعض الأماكن، يمكن أن تكون هذه الغرامات مبالغ رمزية، بينما في أماكن أخرى، قد تكون أكثر صرامة، وتتراوح بين مئات إلى الآلاف من الدولارات، وذلك في محاولة لإحترام كل منهما الأخر (الطبيب والمريض) - وتهدف هذه الغرامات إلى عدة أهداف منها – وفقا لـ"الغزاوى":-
1- تحفيز الالتزام بالمواعيد: فمن خلال فرض غرامات مالية على المتأخرين، يتوقع أن يصبح المرضى أكثر انضباطًا في الالتزام بمواعيدهم الطبية.
2- تقليل التأثير على مرضى آخرين: التأخر يمكن أن يؤثر على جدول الطبيب ويؤدي إلى تأخير مواعيد المرضى الآخرين، مما يسبب ازدحامًا غير ضروري في عيادة الطبيب.
3- تقديم تقدير لوقت الطبيب: يعكس الالتزام بالمواعيد احترامًا لوقت وجدول الطبيب، وفرض الغرامات يمكن أن يعزز هذا الاحترام.
4- تعويض الوقت الضائع: قد يتطلب انتظار المتأخرين فترات زمنية إضافية لملء الفجوات الزمنية التي تم إهدارها، مما يؤثر على جدول الطبيب وقد يتسبب في فقدان الإيرادات.
لا يوجد أساس قانوني صالح يجيز فرض مثل هذه "الرسوم"
وفي ضوء ذلك - وتحديداً في ألمانيا "تفرض السلطات الألمانية غرامة كبيرة لمن يتخلف عن موعد الطبيب، تصل إلى 180 يورو، ويصل للمريض إشعار نصي من العيادة تطالبه بدفع هذه الفاتورة في غضون 10 أيام، مع احتمالية أن تضاف لها رسوم التأخير عن الدفع أو تحويلك إلى وكالة تحصيل الديون عندم الامتناع عن السداد خلال الوقت المحدد، وتؤكد الرابطة الفدرالية لحماية المستهلكين أن "رسوم عدم الالتزام بمواعيد الأطباء أو الملغاة مسموح بها فقط في حالات استثنائية" – الكلام لـ"الغزاوى".
ولا يوجد أساس قانوني صالح يجيز فرض مثل هذه "الرسوم"، كما يمكن للعيادات الطبية فرض مثل هذه الرسوم إذا كان الفحص يتطلب قدراً معيناً من التحضير، ويستغرق وقتاً طويلاً وفي نفس الوقت حرمان مريض آخر من حضور الموعد الذي أصبح متاحاً في وقت قصير، لذلك يجب على المرضى المعنيين بالأمر، إلغاء أو تأجيل المواعيد في الوقت المناسب، إذا لم تتمكن العيادات الطبية من تمرير الموعد إلى مريض آخر، فقد يتسبب لها ذلك خسارة أرباحها، وإذا كانت الأحكام والشروط العامة للعيادات الطبية تنص على فرض رسوم في هذه الحالة، فهي عادة ما تكون هذه البنود غير فعالة – طبقا لـ"الغزاوى".
حكم قضائى بسبب التأخر عن الميعاد
وفي حكم قضائي حسمت فيه محكمة برلين الإقليمية هذا الأمر في حكم سابق صدر عام 2005م، غير أن على المرضى الانتباه إلى هذه البنود، إذ قد "يختلف تقييم هذه الرسوم من قبل المحاكم بشكل فردي"، وفقًا للرابطة الفيدرالية لحماية المستهلكين، وفي حالة كان الشخص غير قادر على الحضور لموعد الطبيب، فيجب عليه إلغاؤه في الوقت المناسب، من خلال الاتصال هاتفياً بالعيادة وشرح الموقف وتحديد موعد بديل في نفس الوقت.
ومن ناحية أخرى - فلا ينصح بالإشعار عبر رسائل البريد الإلكتروني، لأن موظفي الاستقبال قد يقومون بفحصها بشكل غير منتظم أو قد تضيع بين باقي الرسائل، وفي هذه الحالة وبالنظر للقوائم الطويلة لدى بعض العيادات الطبية، قد يحصل المرضى الآخرون على فرصة للحصول على موعد أبكر.
خطوة مهمة تهدف إلى تحسين كفاءة النظام الصحي
أما في فرنسا وفي خطوة مهمة تهدف إلى تحسين كفاءة النظام الصحي، "أعلن رئيس الوزراء الفرنسي جابرييل أتال"، إقرار عقوبات مالية على المرضى الذين يحجزون مواعيد طبية ولا يحضرونها، ولم يحدد أتال في بيانه أمام البرلمان، قيمة الغرامة أو آلية تحصيلها، لكنه أكد على تطبيق الغرامة خلال هذا العام، وأوضح "أتال" أن هذه المشكلة تسبب إزعاجا كبيرا للأطباء الذين يضيعون وقتهم في انتظار المرضى، كما أنها تحرم مرضى آخرين من الحصول على استشارة طبية في وقت مناسب.
وأشار "أتال" إلى أن نسبة 6 إلى 10% من المواعيد الطبية في فرنسا لا يتم الوفاء بها أسبوعيا، ما يعني 27 مليون استشارة ضائعة سنويا، وفقا لأكاديمية الطب ونقابة الأطباء الفرنسية، وأن هذا الإجراء سيطبق على جميع المهنيين الصحيين، وقال إنه يأمل أن يؤدي ذلك إلى تحسين جودة الخدمة الصحية وتقليل الضغط على الأطباء، معلنا أنه سيسرع عملية توظيف 10000 مساعد طبي جديد، بدلا من 6000 كان مخططا لهم، لمساعدة الأطباء في القيام بالمهام الإدارية والتركيز على رعاية المرضى، كما قال إنه سيسمح للممرضين المؤهلين تأهيلا عاليا بالدخول مباشرة إلى السنة الثالثة من الطب، لسد النقص في الأطباء في بعض المناطق، وتأتي هذه الخطوات في إطار خطة الحكومة لإصلاح النظام الصحي الفرنسي، الذي يواجه تحديات عديدة، مثل الشيخوخة السكانية والتكاليف المتزايدة والتفاوتات الجغرافية – هكذا يقول "الغزاوى".
فرض رسوم على المرضى مقابل المواعيد الفائتة
ومن جانب آخر - وفي الولايات المتحدة الأمريكية ووفقًا للجمعية الطبية الأمريكية، يُسمح للأطباء بفرض رسوم على المرضى مقابل المواعيد الفائتة، ولكن ما هو المبلغ الذي يمكن لطبيبك أن يتقاضاه منك حقًا؟ هل يعتبر مبلغ 100 دولار رسومًا عادلة، أم أن الرسوم المتوقعة يجب أن تكون أقرب إلى 20 دولارًا؟ وفقًا للبحث، يتراوح متوسط رسوم الموعد الفائت بين 20 دولارًا و60 دولارًا، على الرغم من أن بعض الأشخاص أبلغوا عن دفع مبلغ أكبر مقابل الموعد الضائع.
وفي ضوء ذلك - توصل الدكتور دوجلاس برادلي، إخصائي النوم في مستشفى تورونتو العام، إلى طريقة بسيطة نسبيًا لضمان حضور الغالبية العظمى من مرضاه كما هو مخطط له، ويقول لديه سكرتيرة هاتفية تبلغ المرضى قبل أسبوع من مواعيدهم، يبدو أن التذكير قد نجح، إذ يبلغ معدل عدم الحضور والإلغاء في اللحظة الأخيرة 10 في المائة.
إشكاليات طريقة الحجوزات
وعلى النقيض من ذلك، وجدت دراسة استقصائية غير رسمية لإخصائيين آخرين في المستشفى أن معدل عدم الحضور أو الإلغاء كان يتراوح بين 20 و25 في المائة بالنسبة للأطباء الذين لم يقدموا لمرضاهم تذكيرًا مسبقًا بالموعد، ويشير ذلك إلى أن المكالمة الهاتفية يمكن أن تقلل من عدد المرضى الذين يفشلون في الالتزام بمواعيدهم إلى النصف، (قد يكون من الممكن أيضًا إرسال تذكير عبر البريد الإلكتروني للمرضى).
ومن الجدير بالذكر أن هناك فروقا ذات دلالة إحصائية في جداول الحجز للإخصائيين الطبيين وأطباء الأسرة العاملين في الممارسات الجماعية، قد يرى المريض إخصائيا كل بضعة أشهر أو مرة واحدة فقط في السنة، فبالنسبة لأطباء الأسرة، تميل الحجوزات إلى أن تكون أقرب بكثير إلى وقت الموعد الفعلي لذا، فإن إشعار التذكير قد يكون أفضل بالنسبة للمتخصصين الذين يرون المرضى بشكل أقل تكرارًا من أطباء الأسرة.
الأطباء لديهم ما يبرر فرض رسوم الإلغاء في هذه الحالة
ومع ذلك، يعتقد الدكتور برادلي، الذي يتقاضى أجره على أساس الرسوم مقابل الخدمة، أن الأطباء لديهم ما يبرر فرض رسوم الإلغاء عندما يفشل المرضى في تقديم إشعار مناسب بعدم قدرتهم على تحديد موعد، كما أنه يشعر أن هذه السياسة لا تضر المرضى الفقراء أكثر من المرضى الأثرياء، ويقول أيضاً "إذا فشلت في الحضور لتحديد موعد دون تقديم إشعار، فإنك تحرم شخصًا آخر من رؤية ذلك الطبيب"، ومع ذلك، أثبت الدكتور برادلي في ممارسته الطبية أن الأطباء يمكنهم اتخاذ بعض الخطوات الاستباقية، مثل التذكير بالمواعيد، للحد من الفجوات في جداولهم، مؤكدا أنه من الأفضل الاعتماد على التدابير الوقائية بدلاً من التدابير العقابية لضمان حضور المرضى في مواعيدهم.
كما أنه لأبد أن تكون هناك "سياسة مكتوبة تتطلب توقيع المريض المعني قبل تقديم الخدمات وإخطار المرضى بأن شركة التأمين أو نظام إدارة المحتوى الخاص بهم لن يغطي الإلغاءات المتأخرة أو المواعيد الفائتة أو الوصول المتأخر لأنها غير مشمولة بالخدمات؛ إضافة إلى ذلك يوضح أنه من خلال التوقيع على الاتفاقية، يوافق المريض على تحمل المسؤولية المالية عن المواعيد المفقودة أو المتأخرة؛ ويوضح كذلك أن رسوم المواعيد الفائتة أو المتأخرة تعكس فرصة عمل ضائعة (على سبيل المثال، عندما لا تحضر لموعد محدد، فإنك تأخذ خانة موعد كان من الممكن استخدامها لمريض آخر؛ ويحدد رسوم الإلغاء على سبيل المثال 40 دولارًا أو 70 دولارًا).
إصدار فواتير عدم الحضور أو الوصول المتأخر أداة سلوكية قوية
في الواقع، يعد إصدار فواتير عدم الحضور أو الوصول المتأخر أداة سلوكية قوية يمكن أن تقلل من الصداع بينما تلتقط ما يمكن أن يكون خسارة في الإيرادات، ولعل من المفيد أن نذكر أن من فوائد الغرامات المالية، أنها تؤدي إلى تحسين التزام المرضى بحيث يمكن أن تشكل الغرامات المالية دافعًا إضافيًا للمرضى للحضور في الوقت المحدد لمواعيدهم الطبية، مما يساعد في تحسين الالتزام العام للمرضى بالعلاج، وإضافة إلى تقليل الفوضى في الجدول الزمني للطبيب فبتطبيق الغرامات على المتأخرين، يمكن للأطباء تقليل حدة التأثير السلبي الذي يمكن أن يحدثه تأخر المرضى على جدول العمل، مما يجعل عملية تنظيم الجدول الزمني أكثر فعالية.
كما أنها تساهم بزيادة الإيرادات بحيث يمكن للغرامات المالية أن تزيد من إيرادات العيادة الطبية، حيث يدفع المرضى الذين يتأخرون الغرامات كتعويض عن الوقت المهدر والموارد المستخدمة، أما الجانب الآخر منها وهي عيوب الغرامات المالية فهي قد تأثر على المرضى المحتاجين بحيث لا تكون الغرامات المالية مناسبة لبعض المرضى، خاصة الذين يعانون من ظروف صحية تجعل من الصعب عليهم الالتزام بالمواعيد الدقيقة.
4 بدائل للغرامات
إضافة إلى أنها تؤدي إلى زيادة التوتر لدى المرضى بحيث تزيد الغرامات المالية من مستوى التوتر لدى المرضى وتجعلهم يشعرون بالضغط النفسي للحضور في الوقت المحدد، مما قد يؤثر سلبًا على تجربتهم الطبية بشكل عام، كما أنها تساهم بتأثير على العلاقة الطبية فقد يؤدي فرض الغرامات المالية إلى تدهور العلاقة بين الطبيب والمريض، بحيث يشعر المرضى بالإهانة أو الضغط.
وبعد أن تطرقنا إلى الإيجابيات والسلبيات لفرض الغرامة المالية فمن المهم أن نذكر البدائل لهذه المسألة وهي بدائل للغرامات المالية ومنها:-
أولاً- تقديم تذكيرات مكررة بحيث يمكن للعيادات الطبية تقديم تذكيرات مكررة عن مواعيد المرضى للمساعدة في تقليل نسبة التأخير.
ثانيًا- تقديم بدائل للمرضى الذين يتأخرون بشكل متكرر، مثل استشارات عبر الإنترنت أو خدمات الرعاية في الوقت الفعلي.
ثالثًا- توفير خيارات لإعادة الجدولة بحيث يمكن توفير خيارات لإعادة جدولة المواعيد دون تكلفة إضافية، على أن تكون بديلاً أكثر تسامحًا للمرضى الذين يتأخرون.
رابعًا- إقامة برامج تثقيفية للمرضى حول أهمية الوقت وأثر التأخير على جدول المواعيد وجودة الرعاية.
مطالبات بسن تشريعات في الدول العربية بفرض غرامات مالية على تأخير المواعيد للأطباء والمرضى
في النهاية - يقول "العزاوى": قد تكون الغرامات المالية واحدة من الأدوات التي يمكن استخدامها لتعزيز الالتزام بمواعيد الطبيب، ومن الجدير بالذكر أنه يجب أن تكون هناك استثناءات معينة للغرامات، مثل الحالات الطارئة أو الظروف الصحية الخاصة التي تستدعي التأخير، كما يجب أن تتم معالجة حالات التأخر بحسب الظروف الفردية للمرضى، مع النظر في أسباب التأخر وتقديم الحلول المناسبة، وقبل الختام يثار تسأول مهم هنا، وهو ماذا لو أن الطبيب قد تأخر عن مرضاه أو لم يحظر نهائيًا في اليوم المحدد لمعاينة مرضاه ولم يتم تبليغهم بعدم الحضور في هذا اليوم، فهل يستطيع هؤلاء المرضى مقاضاة هذا الطبيب والمطالبة بالتعويض؟ وفى الدول العربية لابد من وضع وسن تشريعات وتعديلات في قوانين المسئولية الطبيبة تنظم العلاقة بين الطبيب والمريض خاصة فيما يخص المواعيد، ووضع عقوبات وجزاءات لكلا الطرفين حال حدوثها.
أستاذ القانون الجنائى والخبير القانوني الدولى محمد أسعد العزاوي