مع تقدم التكنولوجيا الهائل والمستمر، ودخول الذكاء الاصطناعي إلى مختلف جوانب الحياة اليومية، يطفو على السطح بشكل دائم حزمة من التساؤلات أبرزها.. هل يصبح الذكاء الاصطناعي بديلا للقضاة والمحامين؟ خاصة وأنه في العديد من الدول المتقدمة، بدأ القضاء والمحامون بالفعل في الاستعانة بتقنيات الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة لهم، حيث تستخدم هذه التقنية لتحليل البيانات القانونية ومراجعتها، واقتراح الأحكام استنادًا إلى سوابق قضائيّة، وحتى توقع نتائج القضايا بناءً على أنماط معينة.
والعدالة وتحقيقها والوصول إليها في حقيقة الأمر ليست مسألة حسابات رياضية أو خوارزميات أو معادلات، بل تتطلب حسًّا إنسانيًّا ومرونة في التفسير، فالقضاء الجالس والواقف يعتمد على فهم القيم الإنسانية، مثل: الرحمة، النزاهة، والتقدير الشخصي للظروف الفردية لكل قضية، وهذه الصفات لا يمكن برمجتها بسهولة داخل خوارزميات الذكاء الاصطناعي، وهو الأمر الذى يجعلنا نتطرق لحزمة من الأسئلة وإجاباتها تتعلق بمدى قدرة الذكاء الاصطناعي في أن يُصبح للقضاة والمحامين.
هل يصبح الذكاء الاصطناعي بديلا للقضاة والمحامين؟
في التقرير التالى، يلقى "برلماني" الضوء على "مستقبل العدالة"، ومدى تدخل الذكاء الاصطناعي في تحقيقها، فمع تزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في مختلف جوانب الحياة اليومية، أصبح استخدامه في المجال القانوني محط اهتمام واسع، إذ بينما يساهم الذكاء الاصطناعي في تسهيل الإجراءات القانونية وتحليل الوثائق، يبقى السؤال الأهم: هل يمكن أن يحل الذكاء الاصطناعي محل القضاة والمحامين؟ وما هو موقف المجتمع الدولي من هذه الفكرة؟ في هذا المقال، نستعرض هذه القضية من جوانبها المختلفة ونحلل مواقف العالم منها – بحسب الخبير القانوني الدولى والمحامى بالنقض رجب السيد قاسم.
إمكانية استبدال القضاة بالذكاء الاصطناعي: تحديات ومخاطر
في البداية - أصبحت بعض الأنظمة القضائية في العالم تستخدم الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة، حيث يُستفاد منه في التحليل السريع للأحكام والقرارات القضائية السابقة، بالإضافة إلى تقديم توصيات حول الأحكام المحتملة - على سبيل المثال - في بعض الولايات الأمريكية، تستخدم المحاكم برامج الذكاء الاصطناعي لتقييم معدلات الخطورة والإفراج المشروط، وذلك بهدف اتخاذ قرارات تتسم بالكفاءة والموضوعية كذلك، بدأت الصين باستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي في محاكمها الإلكترونية لإدارة بعض القضايا البسيطة والإدارية – وفقا لـ"قاسم".
ورغم أن هذه الأنظمة توفر الوقت والجهد، إلا أن هناك العديد من التحديات والمخاطر المرتبطة باستبدال القضاة بالذكاء الاصطناعي، فالقضاء لا يتعلق فقط بتطبيق القوانين، بل يتطلب التعاطف وفهم الظروف الإنسانية لكل حالة، وهذا ما يجعل القاضي البشري ركنًا أساسيًا في تحقيق العدالة، ويثير هذا جدلاً حول مدى قدرة الذكاء الاصطناعي على اتخاذ قرارات عادلة وغير متحيزة، خاصة في ظل احتمالية تحيز الآلة بناءً على البيانات التي تغذيها – الكلام لـ"قاسم".
استبدال المحامين: هل يمكن للذكاء الاصطناعي تقديم الاستشارات القانونية؟
فيما يتعلق بالمحامين، الذكاء الاصطناعي قادر حاليًا على مساعدة المحامين بشكل كبير في إعداد القضايا، والبحث عن القوانين، وتحليل الوثائق القانونية - على سبيل المثال - تستخدم العديد من مكاتب المحاماة العالمية اليوم برامج ذكاء اصطناعي لتحليل مئات الآلاف من الوثائق لاستخراج المعلومات الأساسية بسرعة وكفاءة.
لكن استبدال المحامين بشكل كامل لا يزال بعيدًا عن التحقيق، إذ تتطلب المهنة القانونية مهارات إنسانية دقيقة مثل التفاوض والتعامل مع القضايا الشخصية والمعقدة، في اليابان والولايات المتحدة، ظهرت بعض التطبيقات التي تقدم استشارات قانونية مبسطة للأفراد، خاصةً فيما يتعلق بالأسئلة الروتينية، مثل قضايا العقود والإجراءات القانونية الأساسية، إلا أن تلك التطبيقات ما زالت محدودة، حيث إن المستشار البشري يبقى جزءًا رئيسيًا في تقديم استشارات قانونية دقيقة ومتخصصة – هكذا يقول "قاسم".
موقف العالم من استبدال العامل البشري بالذكاء الاصطناعي في المجال القانوني
يتباين موقف العالم بشأن استبدال القضاة والمحامين بأنظمة الذكاء الاصطناعي، حيث تتخذ بعض الدول خطوات تجريبية لتبني هذه الأنظمة بشكل جزئي في المحاكم، بينما تتعامل دول أخرى بحذر.
في الاتحاد الأوروبي: ينظر المشرعون إلى الذكاء الاصطناعي كأداة داعمة بدلاً من بديل كامل للبشر. وقد صدرت لوائح وقوانين لحماية الخصوصية والحد من التحيز في الأنظمة الذكية، مثل "اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR)"، بهدف ضمان أن يكون الذكاء الاصطناعي منصفًا وآمنًا، خاصة في المجالات الحساسة مثل القضاء. الاتحاد الأوروبي يركز على فرض ضوابط أخلاقية صارمة لتجنب احتمالية التمييز والتحيز في القرارات القانونية.
في الولايات المتحدة: يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي كفرصة لتحسين الكفاءة والشفافية في النظام القانوني، وخاصة في قضايا الإفراج المشروط وتقييم المخاطر الجنائية، لكن حتى مع تبني الذكاء الاصطناعي، تبقى هناك معايير تفرض ضرورة مراجعة القرارات الذكية بواسطة قضاة أو محامين، لضمان التزامها بالقواعد الأخلاقية والقانونية.
الصين: من جانبها، تبنت نهجًا متسارعًا في تطبيق الذكاء الاصطناعي داخل النظام القانوني، حيث أنشأت محاكم إلكترونية تعتمد جزئيًا على الذكاء الاصطناعي في إدارة القضايا. هذا التوجه يأتي ضمن استراتيجيتها الوطنية للتحول الرقمي، لكنها تواجه تحديات تتعلق بالشفافية والمصداقية، حيث تطرح تساؤلات حول قدرة الذكاء الاصطناعي على تحقيق العدالة في مجتمع يتميز بتعقيدات ثقافية واجتماعية.
تجارب الدول العربية في استخدام الذكاء الاصطناعي في المجال القانوني
بدأت بعض الدول العربية في استكشاف استخدام الذكاء الاصطناعي في النظام القانوني، حيث تجري تجارب متباينة في هذا السياق:
الإمارات العربية المتحدة: تعتبر الإمارات من الدول الرائدة في المنطقة في مجال التحول الرقمي، بما في ذلك في الأنظمة القانونية. تم إطلاق مبادرات مثل "التحول الرقمي للمحاكم"، حيث تم إدخال نظم ذكية تساعد في تسريع إجراءات التقاضي، مثل استخدام الروبوتات الذكية لمساعدة المتقاضين في تقديم طلباتهم، بالإضافة إلى توفير خدمات استشارية قانونية مبسطة عبر التطبيقات الذكية، والحكومة الإماراتية تستثمر في تطوير الذكاء الاصطناعي كجزء من رؤيتها المستقبلية – طبقا لـ"قاسم".
السعودية: قامت المملكة بتطبيق مبادرات للتحول الرقمي في القطاع القضائي، بما في ذلك إنشاء منصات إلكترونية لتحسين خدمات العدالة. كما يتم استكشاف استخدام الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات القانونية وتقديم توصيات لتحسين الخدمات القانونية. تهدف هذه المبادرات إلى تسريع عمليات التقاضي وزيادة الشفافية في النظام القضائي.
مصر: هناك اهتمام متزايد في مصر بتطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي في المجالات القانونية، حيث يتم استخدام برامج لتحليل العقود والوثائق القانونية، بالإضافة إلى بعض التطبيقات التي تقدم استشارات قانونية مبسطة. ومع ذلك، يبقى استخدام الذكاء الاصطناعي في القضاء محدودًا، ويعتمد بشكل كبير على التعاون بين الخبراء القانونيين ومطوري البرمجيات لضمان دقة وأمان النظام.
الأردن: بدأ الأردن في استكشاف استخدام الذكاء الاصطناعي في مجالات القانون والمنازعات، حيث تم تطوير نظام ذكي لتسهيل إجراءات التقاضي وتحسين الكفاءة، وتُعتبر هذه المبادرات خطوة مهمة نحو تحديث النظام القانوني وتعزيز الوصول إلى العدالة.
الرأي القانوني حول الذكاء الاصطناعي في المجال القانوني
في إطار النقاش حول استخدام الذكاء الاصطناعي في المجال القانوني، يعبّر المستشار رجب قاسم عن قلقه بشأن إمكانية استبدال القضاة والمحامين بالتكنولوجيا الحديثة، وقد أشار إلى ذلك خلال المؤتمر راقي بأخلاقي في نسختة السادسة حول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي الذي عُقد مؤخرًا في محافظة ظفار بسلطنة عمان، ويؤكد أن القضاء مهنة تتطلب مهارات إنسانية فريدة، مثل التعاطف وفهم الظروف الشخصية والمعقدة للأفراد.
يشير المستشار قاسم إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أداة مساعدة لتعزيز الكفاءة وتحسين الأداء، لكنه يرى أن الحلول التكنولوجية لن تستطيع إبدال القضاة والمحامين بشكل كامل ويعتبر أن العدالة تتطلب حُكمًا قائمًا على المبادئ الإنسانية والاعتبارات الأخلاقية، والتي لا يمكن أن يُحققها الذكاء الاصطناعي بمفرده، حيث إن تطبيق الذكاء الاصطناعي في القضاء يجب أن يكون مدعومًا بوجود البشر الذين يستطيعون ضمان نزاهة القرارات وموضوعيتها.
التحديات الأخلاقية والقانونية عالمياً
مع توسع استخدام الذكاء الاصطناعي، تثار تساؤلات أخلاقية حول تأثير الذكاء الاصطناعي على حقوق الإنسان وتحقيق العدالة، إذ يعتمد الذكاء الاصطناعي على بيانات ضخمة، والتي قد تتضمن تحيزات متأصلة تعود لأسباب اجتماعية أو تاريخية، يؤدي هذا التحيز إلى إصدار قرارات غير منصفة، ما قد يعرض الأفراد لظلم ناتج عن قرارات غير مدروسة بالكامل، لهذا السبب، تتخذ بعض الدول خطوات لضمان خضوع الأنظمة الذكية للرقابة البشرية، إضافة إلى تطوير آليات حماية قانونية لمنع أي انتهاك لحقوق الأفراد.
وأوضح "قاسم": إن استبدال القضاة والمحامين بالذكاء الاصطناعي يعد فكرة مثيرة لكنها معقدة للغاية، تتطلب إعادة نظر في طبيعة العمل القانوني والعدالة، وعلى المستوى العالمي، يُعتبر الذكاء الاصطناعي أداة مساعدة لتعزيز الكفاءة والشفافية، لكنه لا يمكن أن يستبدل العامل البشري بالكامل، خاصة في مجال القضاء الذي يتطلب تفهمًا للإنسانية والأخلاق.
صعوبة تدخل الذكاء الاصطناعى في تحقيق العدالة
وأكد أنه على الرغم من الفوائد الكبيرة التي يمكن أن يوفرها الذكاء الاصطناعي في المجال القانوني، إلا أن التأكيد على أهمية العنصر البشري لا يزال ضروريًا، فالقضاة والمحامون يمثلون أكثر من مجرد مشرفين على تطبيق القوانين؛ إنهم يمثلون العدالة في صورها المختلفة، ويتطلب عملهم قدرات تحليلية ومعرفية تعتمد على الفهم العميق للقيم الإنسانية، والاجتماعية، والثقافية، ومع تطور التكنولوجيا، يجب أن يتم استثمار الذكاء الاصطناعي كأداة تكاملية تعزز من فعالية النظام القانوني بدلاً من أن تكون بديلاً له. يجب أن نتذكر أن العدالة تتطلب توازنًا بين التقنية والإنسانية، وأن التقدم في الذكاء الاصطناعي ينبغي أن يكون مصحوبًا بمسؤولية أخلاقية وقانونية.
ويري "قاسم" إن استبدال القضاة والمحامين بالذكاء الاصطناعي يعد فكرة مثيرة لكنها معقدة للغاية، تتطلب إعادة نظر في طبيعة العمل القانوني والعدالة على المستوى العالمي، يُعتبر الذكاء الاصطناعي أداة مساعدة لتعزيز الكفاءة والشفافية، لكنه لا يمكن أن يستبدل العامل البشري بالكامل، خاصة في مجال القضاء الذي يتطلب تفهمًا للإنسانية والأخلاق، على الرغم من الفوائد الكبيرة التي يمكن أن يوفرها الذكاء الاصطناعي في المجال القانوني، إلا أن التأكيد على أهمية العنصر البشري لا يزال ضروريًا. فالقضاة والمحامون يمثلون أكثر من مجرد مشرفين على تطبيق القوانين؛ إنهم يمثلون العدالة في صورها المختلفة، ويتطلب عملهم قدرات تحليلية ومعرفية تعتمد على الفهم العميق للقيم الإنسانية، والاجتماعية، والثقافية.
الأخلاقيات والتعاطف هما عنصران أساسيان في أي نظام قضائي عادل وفعال
مع تطور التكنولوجيا، يجب أن يتم استثمار الذكاء الاصطناعي كأداة تكاملية تعزز من فعالية النظام القانوني بدلاً من أن تكون بديلاً له، ويجب أن نتذكر أن العدالة تتطلب توازنًا بين التقنية والإنسانية، وأن التقدم في الذكاء الاصطناعي ينبغي أن يكون مصحوبًا بمسؤولية أخلاقية وقانونية.
في الختام، يعد الذكاء الاصطناعي في المجال القانوني تحولًا مثيرًا يجسد التقدم التكنولوجي، ولكن علينا أن نكون حذرين في استخدامه، حيث إن تحقيق العدالة يتطلب مشاركة البشر، فالأخلاقيات والتعاطف هما عنصران أساسيان في أي نظام قضائي عادل وفعال، لذلك ينبغي على الدول العربية والعالمية أن تستثمر في دمج الذكاء الاصطناعي في أنظمتها القانونية بطريقة تحترم القيم الإنسانية وتحقق العدالة للجميع.
الخبير القانوني الدولى والمحامى بالنقض رجب السيد قاسم