استولى على أفئدة كثير من الناس الولع بالمال، فأُشربوا حبه والتعلق به، فأستعبدهم الجنية والدولار، وصار مقصودهم وجلّ حديثهم وإهتمامهم فإن أحبوا فلا يحبون إلا لأجل المال وإن أبغضوا فلا يبغضون إلا لأجل المال إن أُعطوا رضوا وإن لم يُعطَوْا إذا هم يسخطون – إلا من رحم ربى - ولقد استغل بعض معتلي الضمير هذه الظاهرة للنصب علي الناس بتحقيق حلم الثراء الزائف من خلال توظيف أموالهم للحصول علي عوائد وفوائد كثيرة.
وتوظيف المال يعني توجيهة وجه معينة بغض النظر عن وسيلة هذا التوجيه، وهو ما يفترض جمعه، ولقد بدأت ظاهرة توظيف الأموال في الظهور في مصر أواخر القرن المنصرم، ولكنها ظاهرة متجددة ولازالت قائمة، إذ يلجا بعض الأفراد والشركات الخاصة إلي بث اعلانات ودعاية للمواطنين تحثهم علي استثمار أموالهم لديها نظير نسبة شهرية أو هامش ربح يضاعف ما تمنحه البنوك مقابل صك يبيح لحاملة استرداد ماله في أي وقت يشاء، وكانت أغلب تلك الشركات ليس لديها اسثمارات جادة أو حتي تحقق أرباح، وإنما درجت علي اعطاء المودع النسبة الشهرية من واقع رأس المال أو بالأحري من الإيداعات الجديدة.
جريمة توظيف الأموال في ضوء قضاء النقض
في التقرير التالى، يلقى "برلماني" الضوء على جريمة توظيف الأموال في ضوء قضاء النقض، حيث ترتب على اللجوء على شركات أو أفراد توظيف الأموال هزه في الإقتصاد القومي، إذ عزف المواطن عن استثمار ماله في السوق بنفسه، كما تهافت الناس علي سحب أموالهم من البنوك وايدعها لدي شركات التوظيف بحسابانها تعطي عائد مضاعف لما تمنحه البنوك جريا وراء حلم الإنسان الأزلي، وهو الثراء دون جد وتعب، وأصبحت تلك الشركات تمثل خطر علي الإقتصاد القومي وصل الي حد احتكاره والتحكم فيه – بحسب أستاذ القانون الدولى والمحامى بالنقض ياسر الأمير فاروق.
في البداية - ولكن الطامة الكبري ظهرت حين عجزت تلك الشركات عن رد أموال المودعين عند طلبها أو حتي الاستمرار في منح العائد، وقد تعددت البلاغات أمام جهات التحقيق والمحاكمة ولم تجد النيابة العامة سوي توجيه تهمة النصب إلي أصحاب تلك الشركات، ولكن عقوبة النصب وهي جنحة ضئيلة، كما أن أركان النصب في كثير من الأحيان قد لا تنطبق علي سلوك أصحاب تلك الشركات، ولهذا أصدر المشرع القانون رقم 146 لسنة 1988 بشأن الشركات العاملة في مجال تلقي الأموال لاستثمارها لمواجهة تلك الظاهرة، فحظر هذا القانون في مادته الأولي علي غير الشركات المقيدة في السجل المعد لذلك بهيئة سوق المال أن تتلقى أموالاً من الجمهور بأية عملة أو أية وسيلة، وتحت أي مسمى لتوظيفها أو استثمارها أو المشاركة بها سواء كان هذا الغرض صريحاً أو مستتراً - وفقا لـ"فاروق".
حظر الشركات توجيه دعوة للجمهور بأية وسيلة مباشرة أو غير مباشرة للإكتتاب
كما حظر على هذه الشركات توجيه دعوة للجمهور بأية وسيلة مباشرة أو غير مباشرة للإكتتاب العام أو لجمع هذه الأموال لتوظيفها أو استثمارها أو المشاركة بها، ثم أوضحت المادة 21 من هذا القانون الجزاء الجنائي المترتب على المخالفة، فقررت أن كل من تلقى أموالاً على خلاف أحكام هذا القانون أو امتنع عن رد المبالغ المستحقة لأصحابها كلها أو بعضها يعاقب بالسجن وبغرامة لا تقل عن 100 ألف جنيه ولا تزيد عن مثلى ما تلقاه من أموال أو ما هو مستحق منها ويحكم على الجاني برد الأموال المستحقة إلى أصحابها، وتنقضى الدعوى الجنائية إذا بادر المتهم برد المبالغ المستحقة لأصحابها أثناء التحقيق، وللمحكمة إعفاء الجاني من العقوبة إذا حصل الرد قبل صدور حكم نهائي في الدعوى – هكذا يقول "فاروق".
ونصت المادة سالفة الذكر في فقرتها الأخيرة على معاقبة توجيه الدعوة للإكتتاب أو لجمع هذه الأموال بالمخالفة لما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة الأولى من القانون ذاته بالسجن وبغرامة لا تقل عن 50 ألف جنيه ولا تزيد عن 100 ألف جنيه.
صور تجريم توظيف الأموال
يتضح مما تقدم أن المشرع جرم 3 أنماط من السلوك الأول: تلقى أموالاً من الجمهور بأية عملة أو أية وسيلة وتحت أي مسمى لتوظيفها أو استثمارها أو المشاركة بها سواء كان هذا الغرض صريحاً أو مستتراً، والسلوك الثاني: توجيه دعوه للجمهور بأية وسيلة مباشرة أو غير مباشرة للاكتتاب العام أو لجمع هذه الأموال لتوظيفها أو استثمارها أو المشاركة بها، والسلوك الثالث: الامتناع عن رد الاموال للجمهور، كما وضع المشرع سبب للإعفاء من العقاب عند رد الجاني الأموال التي تلقاها وجعله وجوبي متي تم الرد أثناء التحقيقات، وجوازي أن تم الرد قبل الحكم النهائي – طبقا لـ"فاروق".
أركان جرائم توظيف الأموال
جرائم توظيف الأموال في كافة صورها تقوم علي شرط مفترض حاصلة أن الجاني غير مرخص له بتلقي الأموال لتوظيفها، طبقا للطعن رقم 3134 لسنة 77 قضائية – جلسة 7 أبريل 2016 - كما تفترض صفه خاصة في المجني عليهم بأن يكونوا جمهورا يتلقي الجاني المال منهم أو يمتنع عن رده لهم كله أو بعض أو يوجه الجاني اليهم الدعوة للاكتتاب، ولذا كان عنصر الجمهور في جريمة توظيف الأموال من اهم عناصرها.وقضاء النقض مستقر علي أنه يجب علي محكمة الموضوع أن تستظهر صفه الجمهور في المجني عليهم بأن يثبت الحكم أنه ليس هناك علاقة خاصة تربط الجاني بالمجني عليهم كعلاقة قرابة أو مصاهرة أو عمل أو مشاركة اي أن يتعامل الجاني من الجمهور بغير تمييز بادلة سائغة لها اصل في الأوراق وإلا كان حكمها معيبا.
تطبيقات محكمة النقض في جريمة توظيف الأموال
وفى هذا الشأن – سبق لمحكمة النقض وقد تصدت لجريمة توظيف الأموال في عدد من الطعون التي أودعت أمامها أبرزها الطعن رقم 7541 لسنة 78 قضائية – جلسة 17 أبريل 2011 – والذى جاء في حيثياته: وتطبيقا ذلك قضت بأن عدم استظهار الحكم علاقة من تلقي الأموال بأصحابها وكيفية الترويج للنشاط ووسيلته وإذا كان تلقي الأموال من الجمهور بدون تمييز وإن كانت تلك الوسيلة سبباً في جمع الأموال لحسابه الخاص من عدمه وأسماء من تلقي منهم – وكذ الطعن رقم 9655 لسنة 79 قضائية، جلسة 27 يوليو 2010، والذى جاء فيه: إدانة الحكم المطعون فيه الطاعن بجريمة تلقي أموال لتوظيفها على خلاف أحكام القانون والامتناع عن ردها لأصحابها دون استظهار وصف الجمهور ومدى تحققه وعلاقة أصحاب الأموال بالطاعن، قصور يوجب نقضها.
وقضت كذلك بأن القضاء بالإدانة في جريمة تلقى أموال لإستثمارها من خلال دعوة للإكتتاب بالمخالفة للقانون، والامتناع عن ردها دون بيان كيفية توجية الدعوى للجمهور ووسيلته وعلاقة من تلقى الأموال بأصحابها والعلانية التى وقعت من الطاعن لتوجيه الدعوى للإكتتاب وما إذا كان يتلقى الأموال لحسابه من عدمه يعيب الحكم، طبقا للطعن رقم 42061 لسنة 72 قضائية الصادر بجلسة 19 فبراير 2009، وقضت أيضا بأن إدانة الحكم للطاعن بجريمة تلقي أموال لاستثمارها بالمخالفة للأوضاع المقررة قانوناً وامتناعه عن ردها لأصحابها وعدم بيانه علاقة من تلقى الأموال بأصحابها وكيفية الترويج للنشاط الذي وقع من الطاعن ووسيلته وكيف كان ما تلقاه من أموال قد وقع بدون تمييز بين الجمهور وكيف أن هذه الوسيلة كانت سبباً في جمع تلك الأموال لحسابه الخاص وأسماء من تلقى منهم على نحو مفصل يعيب الحكم بالقصور بما يبطله، طبقا للطعن رقم 16292 لسنة 87 قضائية الصادر بجلسة 17 ديسمبر 2019.
وفى طعن أخر قالت محكمة النقض: ولكن علي العكس تتحقق صفة الجمهور متي كان لا يوجد علاقة أسرية أو صداقة تربط المجني عليهم بالجاني أو ببعضهم سوى إعلانه فيما بينهم عن نشاطه واقناعهم باستثمار أموالهم في شركته فأودعوه أموالهم، طبقا للطعن رقم 23452 لسنة 83 قضائية الصادر بجلسة 12 أكتوبر 2014، وقال أيضا في طعن أخر: وإذا اتخذت الجريمة صورة الامتناع عن الرد فإن الفرض أن الجاني تلقي المال لنفسه أو أعلن ودعا ليتلقيه هو لا غيره، وكذا يكفي لقيام تلك الصورة الجرمية مطلق الامتناع سواء كان كلي أو جزئي ومن ثم فإن سداد المتهم جزءاً من الأموال التي تلقاها من المجني عليهم لتوظيفها خلافاً للقانون رقم 146 لسنة 1988 غير مؤثر في قيام هذه الجريمة، وفقا للطعن رقم 5987 لسنة 80 قضائية الصادر بجلسة 11 فبراير 2013.
إثبات جريمة توظيف الأموال
هذا ولم يرسم القانون طرق إثبات محددة لإثبات الجريمة فجريمتا تلقي الأموال من الجمهور لتوظيفها أو استثمارها أو المشاركة بها والامتناع عن ردها لا يشترط لإثباتهما طريقة خاصة بل يكفي اقتناع المحكمة بوقوع الفعل المكون لهما من أي دليل أو قرينة تقدم إليها مهما كانت قيمة المال موضوع الجريمة، طبقا للطعن رقم 23452 لسنة 83 قضائية الصادر بجلسة 12 أكتوبر 2014، وفى طعن أخر قال: وبالتالي فإن اطمئنان المحكمة إلى تقرير لجنة الخبراء بأن المبالغ التي تلقاها الطاعنان تقل عن المبالغ التي وردت بأقوال المجنى عليهم وردها إليهم كافٍ لإثبات الجريمة، كما ورد في الطعن رقم 10846 لسنة 79 قضائية الصادر بجلسة 7 مارس 2011.
القصد الجنائي فى توظيف الأموال
جريمة تلقى أموال لتوظيفها على خلاف أحكام القانون والامتناع عن ردها لأصحابها يكفي لتحققها القصد الجنائي العام من علم واردة ولا يلزم طبقا لقضاء النقض التحدث عن ذلك القصد استقلالاً إذ يكفي أن يكون مستفاد من وقائع الدعوى، طبقا للطعن رقم 6416 لسنة 79 قضائية الصادر بجلسة 27 يوليو 2010.
بيانات حكم الإدانة فى جريمة توظيف الأموال
لا يلزم لصحة حكم الإدانة بيان قدر المبالغ الملزم المتهم بردها، وأن يرد هذا المقدار في منطوق الحكم، ومن ثم فان إلزام الحكم المتهمين برد المبالغ التي تلقوها في جريمة تلقي أموال لتوظيفها دون أن يبين في منطوقه قدر هذه المبالغ قصور يبطل الحكم، طبقا للطعن رقم 4896 لسنة 87 قضائية الصادر بجلسة 11 أكتوبر 2017، وكذا جاء في طعن أخر أن استبعاد النيابة العامة شبهة جناية تلقى أموال من أشخاص لتوظيفها واستثمارها بدون ترخيص من الهيئة العامة للرقابة المالية والامتناع عن رد الأموال لأصحابها بعد تحقيقها اعتباره أمراً ضمنياً بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية عن تلك الجريمة له حجية تمنع من العودة إلى الدعوى الجنائية ما دام قائماً لم يلغ، وفقا للطعن رقم 21 لسنة 2017 قضائية الصادر بجلسة 5 مارس 2018.
الإعفاء من العقاب فى جريمة توظيف الأموال
وضع المشرع عذر معفي من العقاب حاصلة أنه اعتبر رد الأموال التي تحصل عليها المتهم علي خلاف أحكام القانون سبب للإعفاء من العقوبة وأن حصل الرد أثناء المحاكمة وقبل صدور حكم نهائي فيها كان للمحكمة أعمال أثر الاعفاء، وكان رائد المشرع من تقرير الإعفاء تشجيع الجناة علي رد المبالغ المنهوبة لأصحابها حرصا علي مصالحهم، ولكن يدق الأمر في الفترة ما بين صدور الحكم وحتي نظر الطعن بالنقض فهل حصول "الرد للمبالغ" في تلك الفترة يوجب علي محكمة النقض إعفاءه من العقاب دون نظر لأسباب الطعن؟
أجابت محكمة النقض علي هذا التساؤول بقولها:
لما كان الحكم المطعون فيه دان الطاعن بجريمة تلقى أموال من الجمهور لتوظيفها واستثمارها على خلاف أحكام القانون والإمتناع عن ردها المعاقب عليها بالمواد 1/1، 21/1، 26 من القانون رقم 146 سنة 1988 بشأن الشركات العاملة في مجال تلقى الأموال لاستثمارها وكانت المادة 21/2 من هذا القانون قد نصت على أنه وتنقضي الدعوى الجنائية إذا بادر المتهم برد المبالغ المستحقة لأصحابها أثناء التحقيق، وللمحكمة إعفاء الجاني إذا حصل الرد قبل صدور حكم نهائي في الدعوى - لما كان ذلك - وكان الطاعن قد رد للمجني عليهم بعد صدور الحكم المطعون فيه المبالغ التى كان قد تلقاها منهم وفق الثابت من إقرار وكيل عن المجنى عليهم بمحضر بالجلسة أمام هذه المحكمة بموجب توكيل خاص يبيح له الصلح والإقرار، والمؤيد بشهادة موثقة من الشهر العقاري تفيد تصالح المجنى عليهم مع الطاعن وتنازلهم عن دعواهم، ومن ثم فإن هذه المحكمة تقضى بإعفاء الطاعن من العقاب، طبقا للطعن رقم 44218 لسنة 74 قضائية الصادر بجلسة 22 أكتوبر 2012.