هل سمعت يوما في عصرنا الرقمي عن الجثث الرقمية، مقابر إفتراضية، وإرثا رقميا سنتركه عبر هذه الشاشات؟، والإرث الرقمي هو جميع المتعلقات الرقمية التي بإمكانك وضع وريث لها حتى تصل له ويكون هو الوصي عليها، فقد برزت الحاجة إلى الوريث الرقمي بسبب قضايا كثيرة، مثلاً نسمع عن عملات رقمية ليس لها أي وريث للآن بسبب وفاة أصحابها ولا يمكن الوصول لها بسبب عدم معرفة الرقم السري والحساب الرسمي لها، وسمعنا أيضاً عن حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت بلا قيمة بسبب وفاة أصحابها ولم يتمكن الورثة من الوصول للرقم السري والحساب.
ليس ذلك فقط بل سمعنا كذلك عن ورثة يبحثون عن أي طريقة للوصول إلى المعلومات المخزنة في أجهزة ذويهم لمحاولة الاطلاع على معلوماتهم ومعرفة الديون التي عليهم لسدادها، ولكن لم تكن هناك أي طريقة تساعد في فتح الأجهزة والوصول للمعلومات، فما الذي سيحدث للإرث الرقمي للناس بعد الوفاة؟ الوصية أو القوانين تحدد ذلك في الأحوال المادية والأدبية، ولكن ما العمل في حال التركة الرقمية، من صفحات تواصل إجتماعي أو مواقع شخصية أو مدونات بكل ما يترتب منها وعليها من عائدات أو التزامات مالية؟ وكذلك تركة الملفات، فإلى من ستؤول، وكم ستطول؟ ومن له حق التصرف بالتركة التي قد تتضمن إبداعات شخصية لم تنشر بعد، فكيف استرجاعها إذا كانت مخزونة في بنوك تخزين لا يعرف الورثة كلمة السر للوصول إليها؟ اقتُرح إنشاء مقبرة رقمية مع إمكانية إدارة معطياتها بما يضمن حرمة الأموات من معلومات جد خاصة، ولكن اعترض على ذلك لأن للموجودات على الإنترنت خاصية الأبدية، فلما التفكير في المقابر.
ما هى الحياة والموت الرقمى؟
في التقرير التالى، يلقى "برلماني" الضوء على إشكالية في غاية الأهمية في ضوء التطور التكنولوجى الرهيب الذى يشهده العالم تتمثل في التعرف على الحياة والموت الرقمى وعلاقتهما بحق الإرث الرقمى والوصية الرقمية الإفتراضية، فقد أعادت الثورة الرقمية بناء نظرية الشخصية القانونية بمفهومها العام مضيفة إليها شخصية رقمية جديدة، فإنّ الوجود الرقمي المتزايد للشخصية الإنسانية في العالم الرقمي، نقلها من حيزها الفيزيائي المحدود إلى حيز رقمي غير محدود ضمن مفهوم "الأنسنة الرقمية"، ما جعل المفاهيم القانونية المنطبقة على الشخصية الإنسانية في العالم الواقعي، غير منطبقة بالضرورة عليها في العالم الرقمي، الأمر الذي حتم على المشرع المصرى التدخل لتنظيم العديد من الحالات القانونية التي ستواجه الشخصية الإنسانية في العالم، لاسيما فيما يتعلق بالموت والحياة الرقمية من جهة، والإرث الرقمي من جهة أخرى وذلك على النحو التالى - بحسب أستاذ القانون العام الدكتور السعيد عبد الناصر السعيد.
أولا- الحياة والموت الرقمي:
تبرز المشكلة حال انفصال الشخصية الرقمية عن الشخصية الإنسانية، نتيجة الموت الفعلي لهذه الأخيرة، فانعدام الشخصية الإنسانية ينتهي بالموت الفعلي، هذه الفرضية لا تنطبق بذاتها في إطار الشخصية الرقمية ما طرح نقاشا قانونيا مستفيضا حول التأطير القانوني لفكرة الموت الرقمي، من حيث التكيف القانوني الخاص به، والضوابط القانونية الحاكمة له، وتأخذ فكرة الموت الرقمي معنيين رئيسيين – وفقا لـ"السعيد":
الأول: ذو مفهوم ضيق، يتعلق بإنهاء الحساب الرقمي للشخص مع بقائه على قيد الحياة، بمعنى انعزاله عن الحياة الرقمية.
والثاني: موسع، يتناول موت الشخصية الرقمية المتزامن مع موت الشخصية الإنسانية أو بعدها بقليل، وهو التعريف الذي نميل له، كونه يفيد الانقطاع النهائي بالضرورة، بينما نفضل تكيف التعريف الأول بالانقطاع الرقمي، وليس الموت الرقمي .
1- مفهوم الموت الرقمي:
والحقيقة لا نزال في هذه الفرضية ضمن فراغ تشريعي، بحيث إنه لا يوجد تشريع قانوني على المستوى الدولي أو الوطني ينظم هذه الحالة، وإنما هي مجرد التزامات أو تعهدات من قبل بعض مواقع التواصل الاجتماعي الأكثر انتشارا في تحديد أو تقييد الحسابات الرقمية، وفقا لاعتبارات فنية أكثر منها قانونية، فهي تعهدات فردية من كل مؤسسة بشكل مستقل، بمعنى إنها التزامات من جانب واحد وضعتها الشركات ذاتها، ولم تفرض عليها من جهة ثالثة، كما أن هذه الالتزامات، وضعت ضمن معايير فنية وتقنية وتنافسية لخدمة هذه المؤسسات أكثر منها لحماية الحق بذاته – هكذا يقول "السعيد".
ولا أدل على ذلك من اختلاف هذه التعهدات باختلاف المؤسسات المنظمة لمواقع التواصل الاجتماعي ما جعل تنظيم عملية الموت الرقمي في الوقت الحالي، تبتعد عن الإطار القانوني الواجب النهوض به من المشرع، وتدخل في الإطار الفني والتقني الذي تقوم به الشركات، في إطار تنظيم طاقاتها الاستيعابية، وسياساتها الترويجية والتنافسية.
2-أهمية التأطير القانوني:
قد يبدو من المستغرب البحث عن تأطير قانوني للموت الرقمي خارج الإطار القانوني، فما الغاية من البحث في موت رقمي بعد تحقق موت طبيعي نظم بشكل قانوني؟ في الحقيقة نعتقد أن الأمر يحتاج لإعادة نظر في قضايا عديدة، إن كان في الجانب الشخصي للشخصية أو في الجانب المالي، فزوال الشخصية القانونية للإنسان يجب أن يستتبعه زوال الأثر المترتب لهذه الشخصية في العالم الواقعي والعالم الرقمي، وإن كان الأول منظم قانونا، فالثاني غير منظم "قانونا" – الكلام لـ"السعيد".
وهنا تبرز الإشكالية القانونية لجهة حق المتوفى في أن تُحترم وفاته، وأن يدفن رقميا كما دفن ماديا، ونعني بذلك إزالة أي أثر رقمي خاص به، ما لم يعبر في وصيته الرقمية بخلاف ذلك. وما يستتبعها من احترام لذكراه، وهذا الأمر يتناول قضايا التعامل القانوني مع البيانات الشخصية للمتوفى الرقمي، وواجب إزالتها، كما الحق في النسيان، والحق في احترام الآدمية الرقمية لما بعد الوفاة، جميع هذه النقاط تحتاج إلى تنظيم قانوني يحدد ما هي الضوابط المؤطرة في ذلك، من حيث تحديد أصحاب الحق بذلك من جهة، وواجب الشركات القائمة على هذا العالم الرقمي في القيام بذلك، ناهيك عن تحديد القوانين الواجبة الإتباع، ما طرح قضية الإرث الرقمي للمتوفى بشكل فعلي، وهنا تبرز إشكالية أخرى أكثر تعقيدا – طبقا لـ"السعيد".
ثانيا: الإرث الرقمي:
يتناول الإرث الرقمي، كيفية التعامل مع الذمة العاطفية والمالية للشخص المتوفى في البيئة الرقمية، والحقيقة، إن كان مصطلح الذمة المالية مفهوماً معلوماً في العالم الواقعي، وبالتالي عملية إسقاطه في البيئة الرقمية لا يثير كثير جلبة، فإن مفهوم الذمة العاطفية هو أمر مرتبط بشكل كبير في البيئة الرقمية، لاسيما في ضوء المفهوم المتنامي للحياة الخاصة في البيئة الرقمية، في جميع الأحوال الوفاة الرقمية تطرح إشكاليات تحديد مآل هذا الإرث الرقمي ببعديه العاطفي والمالي.
1- الإرث العاطفي:
البيئة الرقمية، وحالة الخصوصية والحميمية الافتراضية التي تتيحها للمستخدم، بكونها تضمن عدم تعريض حياته الخاصة، أو ما يعتبر داخلا في حيزها الحميمي من أي مضايقة، لاسيما في ضوء قواعد الحماية المتزايدة التي تمنحها هذه المواقع، تجعل الشخص أكثر جرأة في التعبير عن دواخل نفسه واختلاجاتها، من خلال الكثير من التعليقات والتغريدات والخواطر والأفكار والصور التي تثبت لحظات اجتماعية معينة، قد يتشاركها مع البعض أو قد يحتفظ بها، هذا الكم الكبير من المخزون الشخصي، ذو قيمة عاطفية هائلة، للمتوفى ولورثته من بعده، لاسيما أقاربه من الدرجة الأولى، فالواقع التوثيقي المتواتر لهذا الجانب العاطفي من حياة الشخص في البيئة الرقمية، طرح النقاش حول الأحقية في هذا الإرث العاطفي، الذي من حيث الأصل، ليس له قيمة مالية، لكن له قيمة معنوية كبيرة لورثة المتوفى في إعادة إحياء العديد من اللحظات السعيدة مع المتوفى.
وإن كان هذا الأمر لم يكن ليثير إشكالية كبيرة في العالم الواقعي، كون المقتنيات الشخصية للمتوفى، التي هي جزء من الإرث العاطفي، في حوزة عائلة المتوفى، ويقوم ورثة المتوفى، وتحديدا ممن كان يسكن معهم المتوفى، أو ممن بحوزتهم هذه المقتنيات بالاحتفاظ بها، ما لم يكن للمتوفى وصية أخرى تخالف ذلك، عدا عن أنها لم تكن بمثل هذه الضخامة التوثيقية، فهي في أحسن الأحوال، كتاب أو أكثر من المذكرات، ومجموعة، صور فوتوغرافية، ومراسلات ورقية، وما إلى ذلك، فإنه بخلاف ذلك في العالم الرقمي، ما يجعل البحث في الأحقية القانونية موضع نقاش قانوني مستفيض، لاسيما وأنها بحوزة جهة ثالثة، هي أبعد ما تكون عن العائلة أو الأسرة، ونعني موقع التواصل الاجتماعي الذي نشرت عليه، أو من خلاله هذه المعطيات الرقمية العاطفية.
فراغ تشريعى في تنظيم الإرث الرقمى
الأمر الذي يتطلب تدحلًا تشريعيا في هذا الخصوص، وقد يرى البعض أنه بالإمكان تطبيق ذات المبدأ القانوني القائم على أحقية هذه المواقع بالاحتفاظ بهذا الإرث الرقمي العاطفي، طالما أنه في حوزتها، كما هو واقع التطبيق العرفي، وشبه القانوني، بالاستناد إلى أن الحيازة في المنقول سند الملكية، كل ذلك ما لم يعبر المتوفى في وصيته الرقمية بخلاف ذلك، توجه لا نتفق معه، لأسباب عديدة، من أهمها عدم احترام ماهية هذه المعطيات المكونة للإرث العاطفي، فالمشرع في الواقع الفعلي عندما منح هذه الحقوق لمن تكون بحوزتهم، إنما ربطها بشرط المساكنة من جهة، والقرابة من جهة، أو طبيعة العلاقة الحميمية بين الأفراد من جهة.
أصحاب الحق في هذا الإرث العاطفي، من هم؟
ولا نعتقد أن مواقع التواصل الاجتماعي تمتلك أي من هذه المعطيات - بل هي - وفي ضوء التسهيلات التقنية وإحساس الخصوصية الوهمي الذي تمنحه لمرتادي هذه المواقع، حفزتهم على منحها، بموجب هذه الثقة، جانبا من الإرث العاطفي على سبيل العهدة والأمانة، والتي يجب عليها إعادته لمن يستحقه بعد وفاته، وهنا يثار السؤال حول أصحاب الحق في هذا الإرث العاطفي، من هم؟ يُجيب "السعيد": في الحقيقة، وفي ضوء غياب تنظيم قانوني لذلك، يمكن إنه، يجب التمييز بين الإرث العاطفي المشترك والإرث العاطفي الخاص.
فالأول طالما إنه ينطوي على الحيز التشاركي، فسيكون في عهدة الأشخاص الذين تمت مشاركتهم هذه المعطيات أو تم معهم بشكل خاص تداول هذه البيانات، لكن الصعوبة تثور في الإرث العاطفي الخاص، هنا يمكن تطبيق نظرية التعويض عن الضرر المعنوي بالأثر «Prejudice moral par ricochet» في هذه الفرضية لتحديد أصحاب الحق، ونعتقد هنا أن بإمكانية منحه لأقاربه من الدرجة الأولى والثانية فقط، أي الأب والأم والجد والجدة، والأولاد والزوجة والأحفاد، كما هو الحال في موضوع التعويض عن الضرر الأدبي في القانون المدني المصرى. والمحكوم وفق القواعد العامة في القانون المدني الفرنسي، استنادا لقواعد التعويض عن الضرر.
أسباب ربط الإرث الرقمى بالأقارب ذات الصلة
وقد يبدو الربط مستغربا للبعض في منح هذا الحق بالرغم من عدم وجود ضرر، لكن، نعتقد أن البعد العاطفي في الجانبين متحقق، فإقرار الحق بالتعويض عن الضرر العاطفي مرهون بالألم العاطفي لهذه الفئة من الأقارب، وهو ذات الحيثية التي تمنح هؤلاء الأقارب الحق بالمطالبة بهذا الإرث، ونعني قيمته العاطفية، فكما أن الألم العاطفي لأقارب المتوفى هو محور المطالبة بالتعويض عن الضرر المعنوي، فإنّ القيمة العاطفية لهذه المعطيات الشخصية هي محور المطالبة لهذه الفئات في المطالبة بالحق بها، والتحكم بها، بل إنّ الوصول إلى هذه البيانات قد يكون فيه شكل من أشكال الراحة النفسية والمواساة المعنوية لأهل المتوفى في فهم الجانب الخاص في حياة أبنائهم، لاسيما في حال الوفاة العاطفية أو الغامضة أو المصاحبة لأمراض نفسية أو ضغوطات تعرض لهما أبناؤهم قبل الوفاة كانت سببا للانتحار.
ومثال على ذلك قضية انتحار الشاب «B Stassens.» الذي لم يتجاوز الحادية والعشرين ربيعا في عام 2010، والذي لم يترك أي توضيح حول أسباب انتحاره، في ذات الوقت الذي رفضت كل من شركة جوجل وفيس بوك السماح لأبويه الاطلاع على بريده الخاص، بهدف معرفة أسباب انتحاره، وفي القضية سلمت جوجل هذه البيانات بين عدة شهور، في حين أن فيس بوك لم تقم بتسليمها إلا في عام 2012 استنادا لحكم قضائي الزمها بذلك، علما بأن هذه البيانات غالبا ما يخشى تداولها من هذه المواقع مع المراكز البحثية، وهنا يبرز الخوف على الحياة الخاصة، لاسيما حينما تستخدم بعد حين من الزمن. وبالتالي ينقلب بعدها العاطفي لبعد مالي هو الأهم بالنسبة لهذه الشركات، ما يوجب البحث في الإرث الرقمي المالي .
2- الإرث المالي:
هذه الفرضية تتناول الذمة المالية الرقمية للمتوفى، بمعنى الموجودات الرقمية على الحسابات الخاصة للمتوفى ذات التقييم المالي، بما فيها تلك التي لها قيمة مالية كان يستأثر بها المتوفى، أو التي اكتسبت هذه القيمة بعد وفاته، من حيث الأفلام والموسيقا والألعاب، والكتب والمنشورات، وما إلى ذلك، ما سيطرح السؤال إلى من تؤول ملكيتها بعد وفاته؟، وهل من الممكن أن تدخل ضمن قواعد الميراث؟، لاسيما إذا ما علمنا الأرقام المالية الضحمة التي تعنيها هذه الموجودات في العالم الرقمي، استنادا إلى الوفاة الرقمية غير الرسمية، الناجمة عن عدم قدرة هذه المتوفى على الولوج لهذه المقتنيات مجددا.
الإجابة ترتبط هنا – بحسب "السعيد" - بالإجابة على سؤال أكثر دقة، يتعلق بنوع الحق الذي كان يمتلكه الشخص المتوفى على هذه المقتنيات، أهو حق ملكية أم انتفاع؟ وتحديد مفهوم المقابل في الحصول على هذه المقتنيات أهو ثمن أم بدل انتفاع ؟
بالمقارنة مع مفهوم الحقوق العينية الأصلية في القانون المدني، فالمدقق في طبيعة الحق القانوني في ضوء الطبيعة القانونية لهذا العقد، يدرك جيدا أن "الحاصل على الحق" في هذه العقود، يبقى حقه في الاستفادة من المنتج مرتبطا بالحامل الرقمي لهذه الحقوق المملوكة من طرف ثالث هو : "منتج الخدمة" أو "مزودها"، بالتالي هو يمتلك قدرة الوصول إلى الحق، لا قدرة التحكم بالحق، أو ما يسمى بالقانون : "القدرة على التصرف بالحق" ببعديه المادي والقانوني، فهذه الأخيرة هي العنصر الرئيس في حق الملكية، وانتفاءها ينفي وجود الحق، وينقلنا لحق آخر.
التصرف القانوني في الحساب الذى لا يزال موجودا
فهل يملك الحاصل على المنتج هذه القدرة التدقيق في كيفية التعامل مع الحق، يبين أنّ "الحاصل على المنتج"، لا يمتلك أي من أبعاد هذه القدرة، فهو لا يملك القدرة على التصرف المادي بالحق القائم على القدرة على إزالة الوجود المادي للحق، من خلال إتلافه، كحذف الحساب الرقمي، أو اللعبة الرقمية، أو المنتج... وإن كان يملك أو يعتقد أنه يملك إخفاء وجودها الرقمي، فهو يخفي الوجود لا الحق، كون الحامل الرقمي الخاص به لا يزال موجودا ولا سلطة له عليه، بمعنى أنه حجب ظهور الحساب ولم يلغه.
فالحساب بمختلف بياناته ومعلوماته لا يزال موجدا لدى الموقع الإلكتروني وإن لم نره، إن كان هذا هو الواقع بالنسبة للتصرف المادي، فما هو واقع الحال بالنسبة للتصرف القانوني، بمعنى هل يمتلك "الحاصل على المنتج" القدرة على بيعه أو استغلاله، هنا أيضا نعتقد أن الإجابة هي سلبية. فمن يحصل على هذه المقتنيات، لا يمكنه إعادة بيعها أو حتى تأجيرها، كون الحامل الرقمي الخاص بها لا يمكنه من ذلك، بل هو حتى وإن أراد بيعها إن كان يمكنه ذلك- فلا يتم ذلك إلا بإذن وموافقة مالك الحامل الرقمي أو المسؤول عنه.
حق المليكة لهذه المقتنيات ذات القيمة المالية
ونعتقد في ضوء ما سبق، أن أي حديث عن حق المليكة لهذه المقتنيات ذات القيمة المالية هو أمر غير دقيق، وبانتفاء حق الملكية ينتفي بالضرورة الحق بالتوريث أو الميراث، وعليه يغدو الحديث عن إرث رقمي مالي للشخص، أو الادعاء بأن هذه المواقع هي التي ترث هذه الحقوق، خلاصتان غیر دقيقتين، لانعدام وجود هذا الإرث بالأصل، فالمتوفى من حيث الأصل لم يكن يوما مالكا لهذه المقتنيات لكي يستطيع توريثها، وإنما كان منتفعا بها، كما أن الموقع لم يبعه المنتج ليرثه منه، كون الحاصل على المقتني الرقمي ذي القيمة المالية، لم يحصل على الحامل الرقمي للمقتني الرقمي الذي يمكنه من التصرف المادي أو القانوني به.
كل ذلك، بخلاف الحال بالنسبة لحق الملكية في العالم الواقعي، كون مالك الكتاب على سبيل المثال، يمتلك الحامل المادي للكتاب، الذي يمكنه من إتلافه، وبيعه وتوريثه، وبالتالي العملية هنا رهن، بامتلاك الحق امتلاكا كاملا غير منقوص يمكن الشخص من التصرف به، الأمر غير المتحقق في العالم الرقمي، وحال تحقق امتلاك الحاصل على الحق لحامله الرقمي يمكن القول بأن له حق الملكية الذي يمكنه من توريثه، الأمر الذي يبقى متصورا في إطار علاقة الشركات الرقمية التي تشتري البرامج مع حواملها الرقمية، وتمتلك بذلك قدرة التصرف المادي والقانوني عليها. أما الشخص الطبيعي فإن فكرة حق الملكية بالنسبة له لا تزال من وجهة نظرنا غير متحققة.
ومثال ذلك:
رفض إحدى الشركات العالمية منح زوجة المتوفى، الحق بالولوج إلى أحد ألعابه التي اشتراها من أحد المواقع، إلا بعد أن تأكدت بأن شراء هذه اللعبة تم بشكل مشترك من الأرملة وزوجها المتوفى، وأن اللعب بها كان يتم من الحساب الخاص لزوجها المتوفى، مطالبة إياها بإحضارأمر قضائي لإعادة منحها الحق بالولوج إلى اللعبة.
بل إن المدقق في طبيعة التعامل القانوني الجديد، بين هذه المواقع والراغبين بالحصول على منتجاتها الرقمية، يدرك أن فكرة الشراء غير المحدد المدة انتفت، وأضحت تقوم على فكرة: "الشراء" الشهري أو السنوي في أحسن الأحوال، وبالتالي فكرة الشراء القائم على الانتفاع مدى الحياة انتقلت لفكرة الانتفاع المؤقت، كل هذه التحولات إنما تأتي في تثبيت عدم وجود حق بالملكية وإنما حق بالانتفاع المأجور، وإن تكيف العملية التعاقدية لهذه العقود بكونها عقد بيع لا يلغي صحة التكيف القانوني الخاص بها، بكونها: "عقود تأجير مؤقتة" لخدمات قابلة للتحديث، أو منح: "حق الانتفاع الدائم" بخدمات غير قابلة للتحديث مدى الحياة، ففي الحالتين نحن أمام حقوق لا تمكن من التصرف أو التوريث، وعليه أي تكيف قانوني لهذه العمليات التعاقدية بكونها عقود بيع، هو ضرب من ضروب التلاعب في تكيف العقد الذي هي صنعة قضائية بامتياز، لا تخضع لإرادة وأهواء الطرفين .
يبقى سؤال هام، هل هذا الفراغ التشريعي في مفهوم حماية حقوق الملكية لمستخدمي هذه المواقع، لما بعد التملك هو أمر صحي؟ وهل عملية الإسقاط القانوني لمفهوم حق الملكية في العالم التقليدي على مفهوم حق الملكية في العالم الرقمي هو يقارب صحيح القانون؟ الإجابة على هذا السؤال ليست من السهولة بمكان، ونعتقد جازمين أن على المشرع التدخل لحماية هذه الحقوق من حيث تبيان التكيف القانوني لطبيعة الحقوق العينية الأصلية في البيئة الرقمية، فكما تغيرت قواعد الحماية القانونية لحقوق المؤلف في البيئة الرقمية، يجب تبدل قواعد حماية الحائزين على هذه الحقوق في البيئة الرقمية. ولعل فكرة الوصية الرقمية خير مثال لذلك .
ثالثا- الوصية الرقمية:
الوصية هي تصرف مضاف لما بعد الموت، فهي تعبر عن رغبة خاصة للمتوفى، لها أثر قانوني، يوجب مراعاته احتراما لإرادة هذا الأخير، وفي القانون هي في الغالب ذات قيمة مالية. هذا هو المفهوم القانوني التقليدي للوصية، بينما نجد أن فكرة الوصية الرقمية في العالم الرقمي، وأمام غياب التشريع القانوني، إنما لها قيمة عاطفية، بلبوس تجارية، من حيث منح الإمكانية، باختلاف السياسات الإدارية لمواقع التواصل الاجتماعي، لتحديد شخص يتولى إدارة الموقع الرقمي للمتوفي، من حيث القيمة العاطفية فقط، دون إمكانية الاستفادة الشخصية من أي من القيم المالية للمقتنيات الخاصة بهذا الموقع، حتى ولو أوصى الشخص بذلك .
وبالتالي هي وصية ذات قيمة عاطفية، وليست قانونية، وبأثر عاطفي لا قانوني. تتناول إما تحديد شخص لإغلاق الحساب الشخصي، أو إدارته بعد الوفاة، بما يشبه الإرث العاطفي المنقوص لحاسب الشخص، كونه لا يملك مطلقا قدرة الولوج لبريده الخاص أو رسائله الخاصة، ما يطرح السؤال، حول قيمتها القانونية؟
هل هناك ثمة قيمة قانونية للوصية الرقمية؟
علما بأننا في هذه الفرضية نحن لا نتحدث عن الوصية القانونية التقليدية التي تحرر إلكترونيا، فهذه الأخيرة هي وصية قانونية رسمية حررت إلكترونيا، وهو مفهوم يختلف عن مفهوم الوصية الرقمية الذي تتيحه مواقع التواصل الاجتماعي لتجيز وإدارة الحسابات الرقيمة لمستخدميها بعد الوفاة، ومن أكثر المؤيدين لذلك موقع فيسبوك، الذي أصبح اليوم يعد أكبر حائط تذكاري في العالم، = بحسابات رقمية تجاوزت الثلاثين مليونا فقط في الفترة بين 2012 -2015.
خارج إطار الالتزام القانوني لمواقع التواصل الاجتماعي، فليس ثمة قيمة قانونية للوصية الرقمية، كونها لم تنظم قانونا بشكل رسمي. فهي تعهد تحترمه هذه المواقع طالما وافق اشتراطاتها المسبقة، وبالتالي في حال المنازعة عليه، سيكون ذلك ليس في إطار فكرة الوصية بذاتها، وإنما في إطار مخالفة هذه المواقع لتعهداتها. كذلك، ليس هناك ما يوجب قانونا من مستخدمي حسابات التواصل الاجتماعي تحرير وصية ما، بل إنّ هذه الوصية فيما لو حررت، وتم الاعتراض عليها من قبل الغير، فلا قيمة قانونية لها، كون القانون لم يعترف بالوصية الرقمية على الحسابات.
وسيكون الأمر موضع نزاع قضائي لتحديد الموقف القانوني من مدى صدقية هذ الرغبة وموافقتها للقانون من عدمه، لا سيما إذا ما علمنا أن فكرة الخلود الرقمي هي موضع نقاش بين مؤيد ومعارض. مؤيد لها في إطار منهج التوثيق الرقمي القائم على الاحتفاظ بهذه البيانات، لما لها من قيمة عاطفية وإنسانية، وربما علمية واجتماعية. ومعارض لها في إطار مدرسة النسيان الرقمي، التي تركز على مخالفة فكرة الخلود الرقمي للناموس البشري القائم على الاندثار والدخول في عالم النسيان، احترما للقيمة الإنسانية للفرد، وتغليبا للبعد الإنساني على البعد الرقمي.
المشرع الفرنسي والموت الرقمى
هنا تجدر الإشادة، بجهود المشرع الفرنسي الذي أطر وإن كان بشكل غير مباشر قضية الموت الرقمي في القانون المعنون: «لأجل جمهورية رقمية» لعام 2016 الذي أضاف المادة (1-40) قانون المعلوماتية والبيانات والحريات لعام 1978 ، مقرا، وبقوة القانون، بزوال الحق بالاحتفاظ بالبيانات الشخصية للشخص بمجرد وفاته، مالم توجد أسباب تمنع ذلك، جاعلًا الأصل ارتباط الموت الرقمي بالموت الفعلي، وهذا مبدأ منطقي يثنى به على المشرع الفرنسي.
بذات الوقت، فقد أقر المشرع باحترام إرادة المتوفى من حيث حقه في إعطاء مبادئ توجيهية حول حفظ أو حذف معطياته الشخصية وآلية التعامل مع هذه البيانات بعد الوفاة، مبينا بأن هذه التوجيهات يمكن أن تكون عامة أو خاصة، مشددا الإجراءات القانونية في التوجيهات الخاصة أكثر من العامة، مشترطا توثيقها لدى المجلس الوطني للمعلوماتية والحريات، بعد تحديد الشخص المؤتمن عليها، على أن تحدد كيفية الإجراءات القانونية والنماذج المتعلقة بهذه التوجيهات، بقرار خاص من مجلس الدولة، بعد استمزاج موقف المجلس الوطني للمعلوماتية والحريات، مؤكدا على حق الشخص، قبل وفاته بتعديل أي من هذه التوجيهات متى أراد ذلك، معتبرا أن أي شرط يحرم أو يمنع الشخص من القيام بذلك يعتبر باطلًا.
للورثة الحق في الولوج لبيانات المتوفى الرقمية
كما أكد المشرع أنه في حال غیاب وجود توجيهات من قبل المتوفى حول التعاطي مع بيانته الرقمية، فإنه يبقى للورثة الحق في الولوج إلى هذه البيانات طالما أن ذلك يأتي في سبيل خدمة عملية تصفية التركة، وبالتالي حصر الميراث الفعلي والرقمي للمتوفى من بين بيان الأصول الرقمية المالية للمتوفى إن وجدت، كما لهم الحق بعد إعلام المسؤول عن تصفية التركة بإغلاق الحساب الخاص بهذه البيانات. وفي حال وجود خلاف بين الورثة، يحال الأمر إلى المحكمة صاحبة الاختصاص بحصر الإرث لحسم الخلاف.
والحقيقة إن ما يسترعي الانتباه في موقف المشرع الفرنسي ملاحظتين أساسيتين: الأولى تتعلق بالتكيف القانوني لهذا التصرف الذي يقوم به المتوفى، من حيث كونه «توجیه» «Directive» وليس «وصية» «Testament». بحيث أصبح للشخص الحق في «التوجيه» بتحديد مصير بياناته الشخصية، مع ما يستتبعه من ضبط المصطلح القانوني لهذا الإجراء وتمييزه عن الوصية، وتبيان حدوده ونطاقه.
والثانية، تتعلق بحدود الولاية القانونية لهذا النص، ذلك أن المشرع الفرنسي قد اعتبر أن أي شرط يحرم أو يمنع الشخص من ممارسة الحقوق المنصوص عليها في هذا الفصل يعتبر باطلا، ما سيطرح حدود التطبيق القانوني لهذا النص على مواقع التواصل الاجتماعي التي تتجاوز حدودها الجغرافية الحيز المكاني للمحاكم الوطنية الفرنسية، ومدى إلزامية هذه النصوص في مواجهة هذه المواقع. ومما لا شك فيه أن الإجابة على مختلف هذه الملاحظات وغيرها ستكون رهنا بموقفي الفقه والقضاء الفرنسيين في قادم الأيام. فهذا النطاق سيتحدد مستقبلا من خلال التطبيق القضائي لهذه المادة.
فرنسا وموجة التعديلات التشريعية الرقمية
فموجة التعديلات التشريعية التي شهدتها منظومة القوانين الفرنسية لاسيما، مع بداية الألفية الجديدة، وتحديدا في السنوات العشر الماضية، تؤكد مدى اهتمام المشرع بمواءمة تشريعاته مع مستجدات هذه الثورة الرقمية، بحيث يمكن القول إن الجانب الرقمي يبرز اليوم، في مختلف التشريعات القانونية الفرنسية، سواء في منظومة القانون الخاص أو العام، كما تم وضع العديد من الاستراتيجيات الوطنية للتعامل الرقمي، ووضع قانون خاص بالجمهورية الفرنسية الرقمية.
والعديد العديد من القوانين الرقمية، هذه الجهود القانونية التشريعية ذات الطابع الرقمي، للأسف، لا يزال المشرع المصرى بعيدا عنها، بحيث لا توجد حتى الآن رؤية إستراتيجية تشريعية تتعامل مع هذا الواقع الرقمي المستجد، بما يمكن من المشرع المصرى من مسايرة مختلف هذ التطورات في العالم الرقمي. واقع نأمل أن يعمل المشرع المصرى على تلافيه في القريب العاجل من الأيام.
مناشدة المشرع المصرى بمواكبة المشرع الفرنسى
خطوة نأمل من المشرع المصرى أن يسير في ركبها، ويعيد النظر في تشريعاته الحمائية الخاصة بمستتبعات موت الشخصية الإنسانية على المستوى الرقمي، نظرا للفراغ التشريعي القائم حيال هذه المسألة، ولعل الضوابط القانونية التي وضعها المشرع الفرنسي، بالإضافة للتجربة التشريعية الحديثة للولايات المتحدة الأمريكية قد تكون مفيدة للمشرع المصرى في هذا الخصوص.
مقترح لوزير العدل بشأن الإرث الرقمى
وفى غضون مارس الماضى - تقدم النائب محمود القط أمين سر لجنة الثقافة والسياحة والآثار بمجلس الشيوخ عن تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين، مقترح برغبة موجه إلى المستشار عمر مروان وزير العدل، حول آليات التعامل القانونى مع الإرث الرقمى ليكون هناك آلية قانونية للتعامل مع الحسابات الإلكترونية لأصحابها بعد وفاتهم، حيث تضمن الإقتراح أن يكون التعامل محدد برغبتهم بعد وفاتهم و بذلك لا يضيع حقوقهم بعد الوفاة، خاصة وأن هناك تعاملات مالية كبير على الحسابات الإلكترونية تضيع على مستحقيها لمجرد عدم وجود صاحبها، وردد قائلا :"و كما تم فرض ضرائب على الامتيازات نقوم بتفعيل ضمان الحقوق".