الشهود هم عيون العدالة وأُذنها، والشاهد لغة هو من أطلع علي الشيئ وعاينه، والشهادة إسم المشاهدة وهي الإطلاع علي الشيئ عيانا، والكذب في الشهادة ظاهرة قديمة ومحرمة في كل الأديان، كما أنها ضد الأخلاق والفضيلة، ولقد احتار الفلاسفة والمفكرين في تبريرها، كما أهتم علماء الأخلاق والنفس والإجتماع بدراسة أسبابها ودوافعها لوضع الحلول اللازمة لعلاجها وتجنب مشاكلها، وارجعوا الكذب إما إلي سوء القصد بهدف محاباة خصم أو لقاء مال أو ضعف في إدراك حواس الشاهد أو خلل نفسي أو قصور في ملكاته جعله يتخيل أمور لم تحدث، ولكن يعتقد حدوثها.
ولا يخفي علي أحد أن الشهادة تلعب دورا هاما في إثبات الوقائع والجرائم، ولهذا كان الكذب فيها من جرائم تضليل العدالة من خلال تشوية الدليل الأول من أدلة الإثبات وهو البينة، وتحدث الشهادة الزور عندما يطلب شاهد لأداء الشهادة في قضية مدنية أو تجارية أو جنائية، فيؤكد عن عمد شيئا خاطئا أو ينكر شيئ صحيحا ويتسبب بذلك بالفعل أو بصفة عارضة في الأضرار بالآخرين ضررا حال أو محتمل وتضليل العدالة.
جريمة الشهادة الزور
مثال على ذلك - يشهد الشاهد كذبا أمام محكمة الجنايات بأن (زيدا) المتهم في جريمة قتل كان في وقت وقوع الجناية بجهة غير التى وقع فيها القتل، وذلك منه بقصد تخليص (زيد) هذا من العقاب – 1467 لسنة 14 قضائية بجلسة 2 يناير 1944 – أو يشهد الشاهد في جريمة ضرب أن (زيد) هو من اعتدي علي بكر وينفي عمدا أن (بكر) هو الذي بدا بالتعدي أو يشهد الشاهد في جريمة سرقة بحصولها من (زيد)، ولكن يغفل عمدا ذكر ظرف الإكراه الذي صاحب السرقة وهو يعلم به تمام العلم.
موقف المشرع المصرى.. طبيعة جريمة الشهادة الزور
أما عن الموقف القانوني من جريمة الشهادة الزور – يقول أستاذ القانون الجنائى والمحامى بالنقض ياسر الأمير فاروق - عالج المشرع المصري جريمة الشهادة الزور في المواد 294 الي 299 من قانون العقوبات علي غرار المواد 361 الي 364 من قانون العقوبات الفرنسي القديم وأقامها علي العمد وسوء القصد ويبين من أحكام تلك المواد أن جريمة الشهادة الزور لا يتصور الشروع فيها، إذ يمكن للشاهد أن يتراجع عن شهادته حتي قبل باب المرافعة في الدعوي ويزيل عنها كل ما يجعلها غير صحيحة، والشهادة الزور من الجرائم الشكلية وليس جرائم النتيجة، إذ تتحقق بمجرد الإدلاء بالأقوال الكاذبة متي كان من شأنها الحق ضرر حال أو محتمل بالغير ولكنها يجب أن تقع أمام قضاء الحكم، وأن يُصر الشاهد علي شهادته المكذوبة حتي إقفال باب المرافعة في الدعوي.
تقادم جريمة الشهادة الزور
وبحسب "فاروق" في تصريح لـ"برلماني": جريمة الشهادة الزور وقتية يبدأ انقضاء الدعوى الجنائية عنها بمضي المدة من يوم حصول الشهادة الزور ولو جهل المجني عليه ذلك، ومن ثم فإن رفض حكم الادانة الدفع بإنقضاء الدعوى الجنائية في جريمة الشهادة الزور محتسب تاريخ وقوع الجريمة تارخ صدور الحكم الذي أديت فيه الشهادة إخلال بحق الدفاع، طبقا للطعن المقيد برقم 46613 لسنة 56 قضائية – الصادر بجلسة 26 مايو 2001.
تأصيل وتحليل جريمة الشهادة الزور
ووفقا لـ"فاروق": يجري قضاء النقض علي أن مناط العقاب علي الشهادة الزور رهن بتقرير الشاهد بعد حلفه اليمين أقوالا يعلم أنها تخالف الحقيقة بقصد تضليل القضاء، فجريمة الشهادة الزور تتحقق متي قرر الشاهد أقوال كاذبة أضرارا بغيره أو بهدف تحقيق مصلحة للغير عامدا متعمدا، طبقا للطعن رقم 1493 لسنة 13 قضائية، وهوما يقتضي من الحكم كي يسلم قضاؤه من شائبة الخطأ بيان موضوع الدعوى التي أديت فيها الشهادة وموضوع الشهادة وما غير فيها من حقيقة وتأثير ذلك على مراكز الخصوم والضرر المترتب عليها وتعمد قلب الحقائق أو إخفائها من الشاهد عن قصد وسوء نية، طبقا للطعن رقم 2706 لسنة 67 قضائية.
أولا: مناط العقاب على الشهادة الزور
كون الشهادة قد أديت أمام قضاء الحكم بعد حلف اليمين وبقصد تضليله، وإذ أساس العقاب علي الشهادة الزور ليس الكذب في حد ذاته بل الحنث باليمين، ومن ثم فإن الإدلاء بالشهادة في تحقيقات النيابة أو الشرطة لا يكون جريمة الشهادة الزور – طبقا للطعن رقم 6909 لسنة 53 قضائية - كما أنه لا جريمة أن أديت الشهادة دون يمين سهوا أو سمعت علي سبيل الاستدلال، ويرجع أشتراط المشرع للزوم حلف الشاهد لليمين كشرط لتحقق الجريمة أن هذا الحلف يحرك ضمير الشاهد بتذكيره بالله، مما يدفعه إلى قول الحقيقة فإن تعمد الكذب رغم ذلك حق عليه العقاب – الكلام لـ"فاروق".
ويري جانب من الفقه الفرنسي أنه إذا اخطأت المحكمة، وأمرت الشاهد بحلف اليمين رغم أن القانون أوجب سماع أقواله استدلالا فحلف خلافا لحكم القانون وجب عقابه بالشهادة الزور أن قرر غير الحقيقة، ولكن لا جريمة ولا عقاب إلا إذا قصد الجانى تضليل العدالة بحملها علي الحكم لخصم بعينه دون آخر من خلال الكذب في الشهادة بتعمد إخفاء الحقيقة عن العدالة بأي صورة من الصور.
ثانيا: أن يعمد الشاهد إلي تغيير الحقيقة
ويلزم ثانيا: أن يعمد الشاهد إلي تغيير الحقيقة والمناط في ذلك أن ينصب التغيير في الشهادة حول مسألة جوهرية تتعلق بمقطع النزاع المشهود فيه، فإن كانت ثانوية فلا جريمة ولا عقاب وهو ما عبرت عنه محكمة النقض بوجوب أن يبين مدي تأثير الشهادة الزور علي مركز الخصوم، ومن ذلك جنسية المتوفي في دعوي شرعية حال أن مسألة الجنسية لا تأثير لها علي موضوع الدعوي الشرعية المشهود فيها، أما إذا انعدم التغيير في الحقيقة في الشهادة بحيث شهد الشاهد بما تنطق به شواهد الحال وظواهر المستندات فلاتتوافر في حقه الجريمة.
كما أن تكذيب الشاهد في إحدى روايته إعتماداً على رواية أخرى له دون قيام دليل يؤيد ذلك لا يصلح لقيام الجريمة، إذ ما يقوله الشخص الواحد كذباً في حالة وما يقرره صدقاً في حالة أخرى إنما يرجع إلى ما تنفعل به نفسه من العوامل التى تلابسه في كل حالة، ومن ثم فإن إدانة الشاهد بجريمة شهادة الزور لمجرد أن روايته أمام المحكمة خالفت ما قاله في التحقيقات الأولية غير صحيح – طبقا للطعن رقم 19514 لسنة 83 قضائية - وكذلك الشأن عقابه لأن شهادته أمام محكمة أول درجة جاءت مغايرة لشهادته أمام محكمة الاستئناف.
مدي عقاب الشاهد الذي يغيير الحقيقة في شهادته
هذا ولقد أثير خلاف حول مدي عقاب الشاهد الذي يغيير الحقيقة في شهادته كي لا يتعرض للعقاب في جريمة أخري أن قرر الحقيقة، فذهب رأي في الفقه مؤيد من محكمة النقض المصرية إلي العقاب علي الشهادة الزور في هذه الحالة، لأن القانون لم يميز بين شاهد وآخر ولأن قدسية اليمين تمنع التمييز، طبقا للطعن رقم 1594 لسنة 6 قضائية، بينما ذهب جانب من الفقه الفرنسي وبحق الي عدم عقاب الشاهد في هذه الحالة، إذ لا يعقل أن نطالب الشاهد بإتهام نفسه والاعتراف بجرمه كما أنه لا يعد شاهد بل متهم، ولكن يختلف الحل لدينا متي كان الشاهد متهم.
يتمتع بالاعفاء من العقاب أن أعترف بالجريمة كما هو حال الراش والوسيط في الرشوة إذ من شروط الإعفاء صدق الراش والوسيط، والفصل في مخالفة الشهادة للحقيقة من عدمه من الأمور الموضوعية التي يستقل بتقديرها القاضي الذي ينظر دعوي الشهادة الزور ولو خالف تقدير القاضي الذي أديت أمامه الشهادة، كما إذ كانت الشهادة قد تمت أمام محكمة مدنية لا جنائية، إذ هو حر في تكوين عقيدته ولا جناح عليه أن يجئ تقديره لتلك الشهادة مخالفا لرأي القاضي الذي أديت أمامه، طبقا للطعن رقم 193 لسنة 10 قضائية.
عدول الشاهد عن شهادته قبل اقفال باب المرافعة في الدعوي المشهود فيها
ويلزم أخيرا أن يكون من شأن الشهادة الزور احتمال ترتيب الضرر، ومن ثم لا جريمة ولا عقاب أن عدل الشاهد عن شهادته قبل اقفال باب المرافعة في الدعوي المشهود فيها، إذ الشهادة لا تعتبر كاملة إلا إذا أغلق باب المرافعة، فيلزم دوما أن يصمم الشاهد علي شهادة المحرفة حتي نهاية الجلسة فإن عدل الشاهد عما أبداه من أقوال كاذبة بعد توجيه تهمة الشهادة الزور وقبل قفل باب المرافعة في الدعوى وجب القضاء ببراءته، إذ تعتبر أقواله الأولى كأن لم تكن، فإن إدانته المحكمة علي الرغم من عدوله فإن حكمها يكون معيب.
إذ يجب في سبيل تحقيق العدالة على الوجه الأكمل أن يفسح أمام الشاهد المجال ليقرر الحق وآلا يعتد بأقواله الأولى التي سبق إبداؤها في التحقيقات إلى حد تعريضه للعقوبة الجنائية، إذ هو عدل عنها وذلك حتى لا ينغلق في وجهه الباب إذا ما عاوده ضميره إلى الرجوع إلى الحق والإقلاع عما كان عليه من باطل، ويري البعض أنه إذا قررت المحكمة فتح باب المرافعة في الدعوي لم يعد من الجائز للشاهد أن يعدل عن شهادته إذ بإقفال باب المرافعة تضحي الشهادة نهائية.
الإدلاء بالشهادة في حضرة الخصوم
وهنا يقول "فاروق": وهو ما نراه (محل نظر) ذلك أنه ولئن قررت المحكمة قفل باب المرافعة فإنها قررت فتحه مرة أخري بما يعني إمكان العدول عن الشهادة، إذ فتح باب المرافعة استمرار للمحاكمة وليس بمحاكمة جديدة، هذا وبموجب المادة 13/434 من قانون العقوبات الفرنسي الجديد لسنة 1992 المعمول به في 1994 جعل المشرع عدول المتهم مختارا عن شهادته الزور قبل الحكم سببا للإعفاء من العقاب.
ولكن لا يلزم لتحقق جريمة الشهادة الزور أن يكون المتهم الشاهد قد أدي الشهادة في حضرة الخصوم، إذ تلك الجريمة من الجرائم الماسة بالعدالة في المقام الأول ثم مصلحة الخصوم، كما لا يلزم لتحقق الجريمة أن يحكم ضد الخصم بناء علي الشهادة الكاذب، بل يكفي مجرد خطر أو احتمال الحكم ضده، إذ الجريمة من الجرائم الشكلية فيكفي أن يكون من شأن الشهادة الزور أن تؤثر في الحكم ولو لم يتحقق ذلك بالفعل.
وجريمة الشهادة الزور من جرائم الجلسات
وجريمة الشهادة الزور من جرائم الجلسات، ومتي كانت جنحة فتخضع للأحكام الخاصة التي رسمها القانون ومنها أنه متي كانت الواقعة المشهود فيها جنحة كان للمحكمة أن تحرك الدعوي الجنائية في الحال ضد شاهد الزور وتحكم عليه فيها بعد سماع أقوال النيابة العامة ودفاع المتهم طبقا للمادة 244 إجراءات، واذا حدثت الشهادة الزور في دعوي مدنية كان للمحكمة كذلك أن تحرك دعوي الشهادة الزور وتحكم أيضا فيها ويكون حكمها نافذ ولو مع حصول استئناف، طبقا للمادة 129 مرافعات، وذلك بعد سماع دفاع المتهم.
ولكن يلزم توجيه تهمة الشهادة الزور في الجلسة وقبل قفل باب المرافعة، فإن فات علي المحكمة توجيه التهمة في الجلسة وجب نظر جنحة الشهادة الزور وفقا للقواعد العامة حسب نص المادة 246 إجراءات، ولهذا حُكم بأن تراخي اكتشاف المحكمة لكذب الشهادة إلي ما بعد الجلسة يوجب نظرها وفقا للقواعد العادية، إذ لا تعد عندئذا من جرائم الجلسات وتنتفي معه علة الخروج علي القواعد العامة التي تمنع المحكمة أن تجمع بين وظيفتين الإتهام والحكم، ومن ثم فإن إدانة المحكمة للمتهم بجريمة الشهادة الزور باعتبارها واقعة أثناء انعقاد الجلسة رغم عدم توجيه الاتهام له قبل قفل باب المرافعة خطأ في القانون.
إحالة متهم الشهادة الزور للمحاكمة
وتخويل ذات المحكمة سلطة تحريك دعوي الشهادة الزور ضد الشاهد ومحاكمته عنها من الأمور التي تخل بحياد القاضي لسبق تكوينه رأي في جريمة الشهادة الزور واجراء إتهام فيها وهو من الأمور المنهي عنها دستوريا طبقا للمادة 94 من دستور 2014 بما قد يرشح لعدم دستورية المادة 1/244 إجراءات، ومتي طعن المتهم في حكم محكمة الجنايات الذي أدانه بجنحة الشهادة الزور التي اقامتها ضده، وقررت محكمة النقض نقض الحكم المطعون فيه والإعادة فإن الإعادة في الأصل يجب أن تكون أمام محكمة الجنح الجزئية، ولكن أن نقضت محكمة النقض كذلك حكم الجنايات الذي أديت فيه الشهادة الزور وجب إحالتها إلى محكمة الجنايات للإرتباط بينها وبين الجناية المنقوض حكمها لحسن سير العدالة.
ولكن إذا كانت الشهادة الزور جناية فكل ما تملكه المحكمة الجنائية والمدنية علي السواء إقامت الدعوي علي الشاهد والقبض عليه واحالته إلي النيابة العامة، إذ لا تملك محاكمته طبقا للمادتين 3/244 إجراءات و131 مرافعات، والشهادة الزور بحسب الأصل جنحة وعقوبتها الحبس إذا كانت الدعوي الذي اديت فيها جناية والحبس سنتين إذا كانت الدعوي الذي أديت فيها جنحة أو دعوي مدنية مع أو غرامات متفاوتة، إذ نصت المادة 294 عقوبات علي أن كل من شهد زورا لمتهم في جناية أو عليه يعاقب بالحبس، ونصت المادة 296 علي أن كل من شهد زوراً على متهم بجنحة أو مخالفة أو شهد له زوراً يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين، ونصت المادة 297 علي أن كل من شهد زوراً في دعوى مدنية يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين.
وإنما تصبح الشهادة الزور جناية إذا توافر لها أحد الظروف المشددة الاتية:
أولا: إذا لم تفطن المحكمة لزور الشهادة وحكمت في الدعوي بناء على هذه الشهادة الحكم على المتهم يعاقب من شهد عليه زوراً بالسجن المشدد أو السجن.
ثانيا: إذا كانت العقوبة المحكوم بها على المتهم هي الإعدام ونفذت عليه يحكم بالإعدام أيضاً على من شهد عليه زوراً بحسب نص المادة 295 عقوبات.
ثالثا: إذا كان الشاهد طبيباً أو جراحاً أو قابلة وطلب لنفسه أو لغيره أو قبل أو أخذ وعداً أو عطية لأداء الشهادة زوراً بشأن حمل أو مرض أو عاهة أو وفاة أو وقعت منه الشهادة بذلك نتيجة لرجاء أو توصية أو وساطة يعاقب بالعقوبات المقررة في باب الرشوة أو في باب شهادة الزور أيهما أشد، ويعاقب الراشي والوسيط بالعقوبة المقررة للمرتشي أيضاً طبقا للمادة 298/1 عقوبات.
رابعا: إذا قبل من شهد زوراً في دعوى جنائية أو مدنية عطية أو وعداً بشيء ما يحكم عليه هو والمعطي أو من وعد بالعقوبات المقررة للرشوة أو للشهادة الزور إن كانت هذه أشد من عقوبات الرشوة طبقا للمادة 1/298 عقوبات، ومن المعلوم أن عقوبة الرشوة قد تصل إلى السجن المؤبد.