أصدرت محكمة عين شمس الجزئية، حكما فريدا من نوعه، في قضايا إيصال الأمانة، أرست فيه مبدأ قضائيا في جرائم تزوير واستعمال المحررات العرفية بإحالة المستفيد للطب الشرعى للاستكتاب للتأكد من علمه بالتزوير من عدمه، وتبرئ محاميان من تهمة التزوير.
صدر الحكم في الدعوى المقيدة برقم 2753 لسنة 2021 جنح عين شمس، لصالح المحامى بالنقض محمود البدوى، برئاسة المستشار مصطفى محمد يحيى، وبحضور كل من محمد عاطف، وأمانة سر عبد المقصود شاهين.
الوقائع.. نزاع بين شخص ومحاميان على إيصالات أمانة
أحالت النيابة العامة المتهمين للمحاكمة الجنائية العاجلة، أنهما بدائرة قسم عين شمس، ارتكبا تزويرا في محرر عرفى وآخر مجهول وهو "إيصال أمانة"، وكان ذلك بأن جعل واقعة مزورة في صورة واقعة صحيحة بأن قام بوضع توقيعه عليهم ونسبه زورا إلى المجنى عليه "ك. ع" على غير الحقيقة، واستعمل المحرر، وقدمتهما للمحاكمة الجنائية طبقا لنص المادتين 211، 215 من قانون العقوبات.
المحكمة في حيثيات الحكم قالت عن موضوع الدعوى، فلما كان من المقرر وفقا لنص المادة رقم 215 من قانون العقوبات أن: "كل شخص ارتكب تزويرا في محررات أحد الناس بواسطة إحدى الطرق السابق بيانها أو استعمل ورقة مزورة وهو عالم بتزويرها بعاقب بالحبس مع الشغل"، وحيث أنه من المقرر أن تلك الجريمة لا تتم إلا بتوافر 3 أركان هي: 1-فعل الاستعمال. 2-تزوير المحرر المستعمل. 3-علم المستعمل بهذا التزوير.
المحكمة تستند على أحكام النقض حول أركان جريمة التزوير
واستندت المحكمة في حيثيات حكمها على عدد من أحكام محكمة النقض أبرزها الطعن المقيد برقم 326 لسنة 37 قضائية – جلسة 13 مارس 1967 الذى جاء فيه: "مجرد التمسك بالورقة المزورة لا يكفى في ثبوت العلم بتزويرها ما دام الحكم لم يقم دليل على أن المتهم هو الذى قارف التزوير أو إشترك فيه"، وأيضا الطعن رقم 442 لسنة 23 قضائية الذى جاء فيه: "كما وأن جريمة استعمال الورقة المزورة لا تقوم إلا بثبوت علم من استعملها بأنها مزورة ولا يكفى في ذلك مجرد تمسكه بها أمام المحكمة ما دام لم يثبت أنه هو الذى قام بتزويرها، وغيرها من أحكام النقض المتعلقة بجريمة التزوير وأركانها.
وبحسب "المحكمة": لما كان ذلك وهديا لما تقدم وكانت المحكمة قد طالعت أوراق الدعوى عن بصر وبصيرة وأحاطت بظروفها وبأدلة الثبوت التي قام عليها الاتهام ووازنت بينها وبين أدلة النفى، فرجحت دفاع المتهمين وداخلها الريبة في صحة عناصر الإثبات وتشككت في صحة إسناد التهمة ولم تطمئن إليها تأسيسا على أن الأوراق قد خلت مما يفيد قيام المتهمين بارتكاب واقعة التزوير، كما جاءت الأوراق خالية مما يفيد علم المتهمين بواقعة تزوير الإيصال المقدم في الجنحة محل التداعى وتمسكهما بالإيصال وتقديمه للمحكمة ليس دليل على قيامهما بارتكاب واقعة التزوير أو علمهما بها، وقد خلت الأوراق من ثمة دليل أو شاهد على واقعة التزوير.
المحكمة تحيل أطراف النزاع للطب الشرعى لاستكتابهم
ووفقا لـ"المحكمة": فضلا عما ثبت بتقرير مصلحة الطب الشرعى عند استكتاب المتهمين، والذى ثبت به عدم قيام أيا من المتهمين بكتابة إيصال الأمانة موضوع الجنحة لا صلبا ولا توقيعا، ومن ثم تكون الأوراق قد خلت مما يفيد قيام المتهمين بارتكاب جريمة التزوير أو اشتراكهما مع أخر بارتكاب التزوير ولا يكفى مجرد تمسك المتهمين بالأإيصال المزور وتقديمه إلى المحكمة لثبوت علمهما بالتزوير، مما تتشكك معه المحكمة في صحة اسناد الإتهام للمتهمين، حيث خلت أوراق الجنحة مما يفيد قيام المتهمين بذلك أو المشاركة فيه، الأمر الذى يساور المحكمة معه الشك ولا يمكن الجزم معه أن يكون المتهمين هما مرتكبا هذ الفعل، الأمر الذى ينتفى معه الفعل المادى في هذه الجريمة.
وتضيف: بالإضافة إلى انتفاء الركن المعنوى، إذ أنه متى ثبت عدم قيام المتهمين بارتكاب الفعل المادى، فإنه ينتفى مع ذلك علمهما بالتزوير ويصعب مع ذلك تحديد اتجاه ارادتهما في ارتكاب الجرم، وعلى ذلك ينتفى القصد الجنائى من الأوراق ومعه تنهار الجريمة بركنيها المادى والمعنوى، ولا يقدح في ذلك أن المتهميم صاحبى مصلحة، إذ أنه لا يكفى لإدانة المتهمين وفقا للقواعد القانونية آنفة البيان، الأمر الذى تقضى معه المحكمة ببرءاة المتهمين، مما أسند إليهما من اتهام عملا بنص المادة 304/1 إجراءات جنائية.
أصل الحكاية: نزاع الإبن مع أمه حول شقة
هناك سيدة لديها ولد وبنتين، أما الولد فقد تزوج من فتاة حولت حياته ضد أمه واخواته البنات إلى جحيم ودبت بينهم المشاكل، حتى وصل الأمر إلى مقاطعة أمه وأخواته البنات، لدرجة أنه لم يحضر فرح شقيقته التي تزوجت من إبن الجيران، وهو يعمل محاميا، وفى يوم من الأيام طلب الإبن من والدته الميراث في حياة أمه - حتي قبل ما تموت وتوزع الإرث وفقًا للشرع – وكان للأم شقة تمليك كانت تستضيف فيها إبنها وزوجته مساعده منها له عند زواجه.
وفى تلك الأثناء – وعند تحول الإبن على أمه وأخواته البنات بدلا من أن يكون سندا لهن، قررت الأم استلام الشقة من إبنها، إلا أنه رفض التسليم، ما اضطرها لإقامة دعوى طرد من الشقة، وكان محامى الأم هو زوج إبنتها الذى قرر الوقوف إلى جانب زوجته وأمها "حماته" ضد الإبن العاق وزوجته المتجبره، ومن هنا بدأت الصراعات بين فريق فيه الأم وابنتها وزوج ابنتها ومحاميها في ذات الوقت، والفريق الثاني فيه الإبن العاق وزوجته المتسلطة وشقيقها العاطل، وتبادلوا الإتهامات والمحاضر والعرض علي النيابات طيلة سنتين تقريباً.
الأم تطلب من الإبن تحرير إيصالات أمانة ثمن الشقة
ومع مرور الأيام ولمنع الخلافات التي دارت رحاها بين أروقة النيابات والمحاكم، قررت الأم فض الإشتباك، وإنهاء الصراع القائم بين الأسرة الواحدة، فعرضت على إبنها شراء الشقة منها بيع وشراء مقابل مبلغ 500 ألف جنيه رغم أن ثمنها في ذلك الوقت كان 700 ألف جنيه، فوافق "الإبن العاق" على هذا الإقتراح إلا أنه لم يكن لديه هذا المبلغ وهنا تم الإتفاق بين الأم وابنها وبعيدًا عن زوج ابنتها "محاميها" على أنه يحرر 5 ايصالات أمانة بإجمالي المبلغ وبياناتهم كالتالي :
1-عدد 3 ايصالات أمانة ( 150000ج – 150000ج – 200000ج ) ، بمبلغ اجمالي وقدره 500000ج "خمسمائة الف جنية مصري لا غير"، ومحرره من:
1-السيد / (......) .
2-زوجته السيدة / (......) .
3-شقيق زوجته السيد / (.......).
وجميعهم محررين بذات الخط ونفس المداد، وذات شكل ونوع الإيصالات، والإيصالات الثلاث جميعهم محررين لصالح المتهم الأول / (.......) المحامي ( زوج شقيقته، ومحامي والدته) بناء على رغبة والدته السيدة / (......)، وبناء على اتفاقها المسبق مع نجلها / (.....)، ولكون المتهم الأول هو زوج ابنتها ومصدر ثقة لديها، فضلًا عن أنه هو المكلف بإنهاء إجراءات التنازل عن الشقة لصالحة بعد سداد كامل الثمن بموجب ما قام ابنها (......)، بتسليمه الي والدته من ايصالات مزورة بمعرفته، وهو عالم بهذا التزوير .
وعلى الفور - قامت السيدة (........)، موكلة المتهم الأول وأم زوجته ووالدة الشاكي (........) بدورها بتحرير توكيل لصالح نجلها (......)، للتنازل عن الشقة محل النزاع عقب قيامها باستلام الايصالات من نجلها، ووفقًا لطلبها بأن يحرر إيصال لصالحها وايصال لصالح شقيقته (زوجة المتهم الأول ) وباقي الايصالات بأسم محاميها وزوج ابنتها المتهم الأول، وذات المحامي الموكل عنها بذات الوكالة الرسمية والمباشر قضاياها وهو ( المتهم الثاني )، وكان هذا في غير حضور المتهمان ( الأول والثاني ) واللذان لم يحضرا هذا الاتفاق، ولم يحضرا وقائع تحرير الإيصالات ولا تسليمها لوالدة الشاكي، وأن دور المتهم الأول اقتصر فقط على تقديم بلاغات ضد الشاكي وزوجته وشقيقها بموجب هذه الإيصالات، وبناء على رغبة موكلته (والدة زوجته) وبمناولتها له، وأنه لم يحرر ايًا من تلك الإيصالات ولا يعلم عن مضمونها شيء.
وهو ما أقرت به والده الشاكي – المجني عليه (......)، به بموجب إقرار رسمي موثق بمحضر تصديق رقم (....) لسنة 2022م توثيق (....)، والصادر بتاريخ .../... /2022م ، والذي جاء فيه ما يلي :
أقر أنا / (......)
بأن ورود أسم الأستاذ (......) ، بصلب الإيصال كطرف ثاني، والأستاذ (......)، هو أمر لا يعلموا عنه شيء، وكان ذلك دون علمهم، وتم كتابة أسمهم كان لمجرد علمي بياناته فقط، وتم ابلاغ نجلي (.....)، بتلك البيانات وذلك لكتابتها في ايصالات الأمانة .
المحكمة في هذا الحكم لأول مرة تستجيب لطلب عرض الأم (صاحبة الإيصالات) التي تسلمتهم من "ابنها العاق"، وسلمتهم لمحاميها على الطب الشرعي، هي والإثنين المحامين اللذان اسمهما مذكور بالإيصال كطرف أول وطرف ثاني، وتم عرض الثلاثة على الطب الشرعي لبيان ما إذا كان أحدهما قام بتحرير بيانات الايصال موضوع التزوير سواء صلبًا أو توقيعا، وهو ما تم بالفعل، وثبت أن المتهمان الأول والثاني، وأيضا السيدة والدة المجني عليه "الإبن العاق" الذى سلمت الايصالات لمحاميه لم يزور أحد منهم الإيصالات.
المحكمة تكتشف أن التزوير من جانب الإبن المجنى عليه في الدعوى
وفى النهاية - تم اكتشاف أن "الإبن العاق" هو الذى خطط لكل هذه الحكاية وسلم أمه إيصالات مزورة وهو عالم بتزويرها، حيث قام بهذا الفعل حينما علم أن هناك 3 إيصالات من مجموع الإيصالات سوف يتم تحريرهم باسم "محاميها" وهو زوج شقيقته الذى يناصبه العداء لوقوفه بجوار أمه وأخواته البنات، لأنه هو من تولى قضية طرده وزوجته من الشقة بناء على طلب موكلته "حماة المحامي".
وفى هذا الشأن – يقول المحامى بالنقض محمود البدوى – محامى المتهمين الحاصلين على البراءة، أنه من هنا كانت فكرة المبدأ الجديد أن مجرد أن سند الإتهام مزور على المتهم ليس دليلا كافيا على أن صاحب الايصال أو المستفيد هو الذى زوره، وهذا يستلزم من المحكمة الوقوف على حقيقة القائم بالتزوير، لأنه في مجال الإدانة لابد من أن يتوسد دليل الإدانة دليل يقيني قادر على حمل لواء الإتهام بحق المتهم وقادر على نزع الأصل العام عنه وهو أنه برئ .
ويضيف "البدوى" في تصريح لـ"برلماني": إحالة المستفيد من الإيصال أو الورقة العرفية إلي المحاكمة في حالة ما إذا تم الطعن عليها بالتزوير وثبت بالدليل الفني أنها فعلًا مزورة الى من نُسبت إليه: وحيث أنه في مجال ثبوت تزوير الورقة المطعون عليها: فإن تصرف النيابة العامة الموقرة ينحصر في تحريك دعوى التزوير ضد القائم به، وبإسباغ القيد والوصف المنطبقين سواء شكل ذلك التزوير جنحة أو جناية، ولكن الأمر يدق في تحديد المتهم في ذلك التزوير ، وثبوت هذه التهمة ضده سيما وقد تم تداول الورقة المقطوع بتزويرها بيد أكثر من شخص مما قد ينهي الواقعة بقيدها ضد مجهول لشيوع التهمة.
لأول مرة.. في جرائم تزوير واستعمال المحررات العرفية المحكمة تحيل المستفيد للاستكتاب للتأكد من علمه بالتزوير من عدمه
ويؤكد "البدوى": وقـد جانب العمل الصواب في تلك المسألة إذ أن تحقيق الطعن بالتزوير يقتصر عملًا على استكتاب الطاعن، ثم يرد التقرير ، ويتم التصرف، وإذا ثُبت تزوير الورقة فإن المتهم الرئيسي هو دائمًا - المدعي المدني - أو المجني عليه في الدعوى الأصلية، فتقيد الدعوى ضده ويقدم الي المحاكمة دونما استظهار لدوره في الواقعة بالتحقيقات، وثبوت التزوير في حقه يلزم فيه استكتابه للوقوف على ما إذا كان قد حرر الواقعة بيده على خلاف الحقيقة، أو مهرها بتوقيع نُسب للطاعن من عـدمه، أو على صعيد أخر بيان دوره كشريك في حال ما إذا ثبُت أنه لم يحرر البيانات والتوقيعات المزورة .
ويوضح: فقد يثبت التزوير في الورقة دون التوصل الي شخص مرتكبه أو شيوع التهمة في شأنه، فتقرر النيابة العامة الموقرة في الأوراق بألا وجه لإقامة الدعوي الجنائية لعدم معرفة الفاعل، وهو بالتبعية ما يلقي على عاتق المحكمة المُحال إليها دعوى التزوير الفرعية مهمة التثبُت من مسئولية المتهم في واقعة التزوير، وما يجري في شأن التزوير يجري في شأن واقعة استعمال المحرر المزور، فكلما ثبت تزوير في محرر يثور التساؤل دائمًا عن مدى علم مستعملة بتزويره، وبالتالي انطباق جريمة استعمال المحرر المزور.