الشهادة كانت ولا تزال من أهم وسائل الإثبات، وأعظمها مكانة، وأقدمها استعمالا، وذلك لما لها من مكانة رفيعة، ومنزلة عظيمة، ولأهمية الشهادة باعتبارها من أهم أدلة الإثبات التي يعتمد عليها القضاة في أحكامهم، حيث تعد نظرية الإثبات من أهم النظريات القانونية وأكثرها تطبيقا في الحياة العملية، وترتبط هذه النظرية بالقاعدة التي تقضى بأن الشخص لا يستطيع اقتضاء حقه بنفسه، وإنما من خلال اللجوء إلى القضاء، كما أن موضوع الإثبات يعد من أدق الموضوعات، وذلك لمساسه بمصالح الناس وارتباطه بها لحاجتهم له لكسب حقوقهم المتناع عليها أمام القضاء.
والشهادة في حقيقة الأمر - هى إخبار الشاهد بحق لغيره على آخر، والأصل ألا يكون قول الشاهد حجة على المشهود عليه لأنه إخبار، وكل خبر يحتمل الصدق والكذب على السواء وإنما شرعت حجية الشهادة عند تعذر وجود دليل آخر للضرورة التي تقدر بقدرها صيانة لحقوق الناس من الضياع فلا تصلح الشهادة دليلا إلا بشروط يجمع بينها ترجح الصدق في الشهادة على الكذب، فقد اتفق فقهاء الشريعة الإسلامية على حجية الشهادة في الإثبات واعتبروها طريقا من طرق الإثبات ولم يخالف أحد في حجيتها في إثبات كافة الحقوق سواء جنائية، أو مدنية أو أحوال شخصية بغض النظر عن قيمة الحق المدعى به.
هل الخصومة مع الشاهد تمنع قبول شهادته؟
فى التقرير التالى، يلقى "برلماني" الضوء على إشكالية تتمثل في الإجابة على السؤال.. هل الخصومة مع الشاهد تمنع قبول شهادته؟ وما هى الشروط التى لا تصلح الشهادة إلا بها لصيانة حقوق المواطنين؟ وهل حجية الشهادة متعديه أم لا؟ وذلك في الوقت الذى تعتبر فيه الشهادة من أهم طرق الإثبات، وهى حجة مطلقة متى توافرت شروطها، والشهادة تلعب دور فعال في ملف الدعوى في المواد الجنائية، فتكاد أن لا تخلو قضية من دليل مستقى من شهادة الشهود، ونظرا لحضورها القوى في المرافعات، فالقاضى ملزم بالتعامل بشكل دائم مع الشهود من حيث سماع أقوالهم وفى نفس الوقت تحليل هذه الأقوال – بحسب الخبير القانوني والمحامى إسلام عاطف عبد العال.
في البداية – يجب أن نعلم أنه "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذي الإحنة"، ولأن الخصومة تئول إلى العداوة، والعداوة تمنع من قبول الشهادة، ويجوز أن يشهد لخصمه وإن لم يشهد عليه، فلو شهد عليه ولا خصومة بينهما، ثم قذف المشهود عليه الشاهد فصار بالقذف خصما قبل الحكم بشهادته، لم ترد وجاز الحكم بها مع حدوث الخصومة والعداوة، بخلاف حدوث الفسق قبل الحكم بالشهود، ولأن حدوث الخصومة والعداوة ليس بجرح يوجب رد الشهادة، ولو منع حدوث ذلك من الحكم بها لما صحت شهادة على أحد، لأنه يقدر على إسقاطها بحدوث نزاع وخصومة، وما أدى إلى هذا بطل اعتباره – وفقا لـ"عبد العال".
شروط الشهادة أمام القضاء
ولا تصلح الشهادة دليلا إلا بشروط يجمع بينها ترجح الصدق في الشهادة على الكذب، ومن هذه الشروط انتفاء التهمة في الشهادة بحيث لا تجر على الشاهد مغنما ولا تدفع عنه مغرما، ومنها عدم وجود العداوة بينه وبين المشهود عليه أو الميل للمشهود له للحديث الشريف: "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذي إحفة"، فجمع أسباب الميل، فإذا تمسك المشهود عليه بوجود بينه وبين الشاهد تمنع من ترجيح صدقه وقدم الدليل على ذلك تعين على محكمة الموضوع أن تورد دفاعه وتمحصه وتقول كلمتها فيه قبل أن تطمئن إلى صدق الشاهد و إلا كان حكمها قاصرا وللشهادة حجية متعدية، وجوب ألا يقوم بالشهادة مانع من موانعها مثل وجود خصومة بين الشاهد ومن يشهد عليه مانع من قبول شهادته – الكلام لـ"عبد العال".
وأما شهادة الشهود، ووجود خصومة بين الشاهد ومن يشهد عليه مانع من قبول شهادته، فقد نصت المادة الثانية من الدستور المصري علي: "الاسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، وجاء بالفقرة الثانية من المادة الأولي من القانون المدني المصري رقم 131 لسنة 1948: "فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه حكم القاضي بمقتضي العرف فإذا لم يوجد فبمقتضي الشريعة الإسلامية، فإذا لم توجد فبمقتضي مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة".
هل للمحكمة أن تأخذ بأقوال شاهد بينه وبين المتهم عداوة؟
وفى الحقيقة يتمتع القاضى الجنائى بحرية واسعة فى تقدير أقوال الشهود فله أن يأخذ بأقوال الشاهد أو يطرحها ويرفضها بحسب اطمئنانه إليها من عدمه، ولو كان بين الشاهد والمتهم خلافات، كما أنه له أن يجزأ أقوال الشاهد، فيأخذ بما يطمئن منها ويطرح ما عداها وأن تعددت روايات الشاهد أو عدل عن شاهدته أخذ القاض بما يطمئن من هذه الروايات أو بشاهدته المعدول عنها، وهو في كل هذه الأحوال لا يكون القاضي ملزما بذكر السبب الأخذ بتلك الشهادة أو طرحها، ولكن في بعض الأحيان تكون بين الشاهد والمتهم عداوة ويذكر الشاهد رواية ثم يعدل عنها بل أن روايته الواحدة قد يكون بينها تناقض، فهل للمحكمة عندئذ رغم كل ذلك أن تأخذ بشهادة الشاهد دون إبداء أسباب؟
فقد سبق لمحكمة النقض المصرية سبق لها أن رسخّت لتلك المسألة في الطعن المقيد برقم 127 لسنة 77ق جلسة 8 أكتوبر 2012 حيث استقر قضاؤها على أن لمحكمة الموضوع أن تأخذ بشهادة الشاهد كما هي أو تجزئها ولو كان بينه وبين المتهم خصومة قائمة وأن عدول الشاهد عن أقواله السابقة لا يعدو أن يكون قولاً جديداً متضمنا عدولاً عن اتهامه للمحكمة عدم الأخذ بها دون أن تورد سبباً.
وقالت محكمة النقض تطبيقا لذلك بأنه من المقرر أن لمحكمة الموضوع أن تستخلص من أقوال الشهود وسائر العناصر المطروحة على بساط البحث الصورة الصحيحة لواقعة الدعوى حسبما يؤدى إليه اقتناعها وأن تطرح ما يخالفها من صور أخرى مادام استخلاصها سائغاً مستنداً إلى أدلة مقبولة في العقل والمنطق ولها أصلها في الأوراق، ولها أن تأخذ بقول الشاهد ولو كان بينه وبين المتهم خصومة قائمة، وأن تجزئ أقواله وتأخذ منها بما تراه وتطرح ما عداه طالما لم تمسخ الشهادة أو تحيلها عن معناها.
أقوال الشهود وتقديرها يرجع لمحكمة الموضوع
كما إن عدول الشاهد عن أقواله السابقة لا ينفى وجودها إذ لا يعدو ذلك أن يكون قولاً جديداً من الشاهد يتضمن عدولاً عن اتهامه، وهو ما يدخل في تقدير محكمة الموضوع وسلطتها في تجزئة الدليل ولا تلتزم في حالة عدم أخذها به أن تورد سبباً لذلك إذ الأخذ بأدلة الثبوت التى ساقتها يؤدى دلالة إلى اطراح ما تضمنه هذا الإقرار، ذلك أن وزن أقوال الشهود وتقديرها مرجعه إلى محكمة الموضوع تنزله المنزلة التي تراها وتقدره التقدير الذى تطمئن اليه بغير معقب، وهى متى أخذت بشهادة شاهد فإن ذلك يفيد أنها أطرحت كافة الاعتبارات التى ساقها الدفاع لحملها على عدم الأخذ به.
ضرورة إبداء القاضي أسباب الأخذ بشهادة صاحب العداوة
هذا القضاء محل نظر - إذ أن محكمة النقض وسعت من الصلاحيات مع قضاة الموضوع لدرجة باتت فيها حقوق المتهمين في خطر شديد إذ سلطة القاض الجنائي في تقدير أدلة الدعوى النابعة من قضاء القاض بحسب اقتناعه الذاتى لا تعنى تحكم القضاة وصدم حاسة العدالة، وإذا كان القاض في الأصل حرا في تقدير شهادة الشهود والأخذ بها دون ابداء سببا إلا أنه متي إحاطة بالشهادة الريب والظنون وكان الشاهد صاحب مصلحة في الزج بالمتهم إلى السجن وجب التريث فى تقدير شهادته وأن يبين من الحكم أن المحكمة قلبت هذه الشهادة علي كافة جوانبها وأنها لم تأخذ بها إلا بعد اقتناعها بصدقها رغم شوائبها من حيث العداوة والتناقض والعدول وهو ما يقتض من القاض متي أخذ بهذه الشهادة أن يبين السبب وإلا كان حكمه قاصرا لأننا عندئذ لا نكون امام شهادة وإنما أقوال متناقضة معدول عنها بدافع الخصومة بين قائلها والمتهم.
رأى محكمة النقض في الأزمة
هذا وقد سبق لمحكمة النقض التصدي لمثل هذه الأزمة في الطعن المقيد برقم 2195 لسنة 68 قضائية - الصادر بتاريخ 10 يونيو 2010 – حيث ذكرت في حيثيات حكمها أن الشهادة ذات حجية متعدية لأن ما يُثبت بها لأحد الخصوم يعد ثابتاً بالنسبة للخصم الآخر، وذلك اعتباراً بأن من صدرت منه الشهادة شخص عدل لا يقصد بها تحقيق مصلحة لأحد أو مضارته ولهذا الأثر للشهادة واعتبارات العدالة، فإنه يجب ألا يقوم بالشاهد مانع من موانعها من شأنه أن يدَع للميل بشهادته لخصم على آخر سبيلاً ومن هذا القبيل أن تكون بين الشاهد والخصم المشهود عليه خصومة فقد ورد في الحديث الشريف: "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذي إحنة".
وتضيف "المحكمة": وإذ خلت مواد قانون الإثبات المنظمة لشهادة الشهود من نص يعالج أثر وجود خصومة بين الشاهد والخصم المشهود عليه فليس أمام القاضي من سبيل ألا أن يلتجئ إلى مبادئ الشريعة الإسلامية التي تقضى بأن قيام هذه الخصومة يعد مانعاً للشهادة باعتبار هذه المبادئ المصدر الرئيسي للتشريع بنص المادة الثانية من الدستور والمرجع الأصيل للقضاء عند غياب النص وعدم وجود العرف طبقاً لنص المادة الأولى من القانون المدني وينبني على ذلك أنه إذا ما طعن الخصم على أقوال الشاهد بوجود خصومة بينهما مانعة من الإدلاء بأقواله دون ميل وأقام الدليل على ذلك تعين على المحكمة أن تمحص دفاعه وتحققه قبل أن تحكم في النزاع فإن هى لم تفعل واستندت إلى أقوال هذا الشاهد رغم الطعن بفسادها وقع الحكم باطلاً.
طعن أخر ومبدأ قضائى مغاير
وفى حكم أخر لمحكمة النقض قالت في حيثيات الحكم أنه من المقرر أيضاَ في قضاء المحكمة الموقرة أن وجود خصومة قائمة بين الشاهد وبين المتهم لا يمنع المحكمة من الأخذ بأقواله مادامت قد أفصحت عن اطمئنانها إلى شهادته وأنها كانت على بينه من الظروف التى أحاطت بها ذلك أن تقدير قوة الدليل من سلطة محكمة الموضوع وكل جدل يثيره الطاعن فى هذا الخصوص لا يكون مقبولاً لتعلقه بالموضوع لا بالقانون.
وأكدت "المحكمة": وذلك لانه لما كانت الأدلة فى المواد الجنائية إقناعيه، فللمحكمة أن تلتفت عن دليل النفى ولو حملته أوراق رسمية مادام لا يصح فى العقل أن يكون غير ملتئم مع الحقيقة التى اطمأنت إليها من باقى الأدلة القائمة فى الدعوى - وكانت المحكمة قد اطمأنت إلى أقوال شاهد الإثبات فإن ما يثيره الطاعن فى شأن ذلك بوجود خصومة مسبقة إنما ينحل إلى جدل موضوعى فى تقدير الدليل وهو ما تستقل به محكمة الموضوع ولا تجوز مجادلتها فيه أو مصادرة عقيدتها فى شأنه أمام محكمة النقض.
طعن ثالث لمحكمة النقض
وفى طعن ثالث لمحكمة النقض مقيد برقم 2134 لسنة 69 قضائية حيث ذكرت في حيثيات حكمها: وحيث أن مما ينعاه الطاعون علي الحكم المطعون فيه القصور في التسبيب وفي بيان ذلك يقولون انهم تمسكوا في مذكرتهم المقدمة لمحكمة الاستئناف بجلسة 27 فبراير 2005 بوجود خصومة قضائية بينهم وبين شاهدي المطعون ضده وقدموا الدليل علي ذلك .... إلا أن الحكم المطعون فيه أقام قضاءه بإلغاء الحكم الابتدائي ورفض الدعوي الأصلية بمقولة أن الخصومة القضائية لا من اطمئنانه لشهادتهما وهو ما لا يصلح ردا علي دفاعهم سالف البيان بما يعيبه ويستوجب نقضه.